نتناول في هذا المقال تدوينات رحالة غربيين هما :
الرحالةُ الإنجليزي «وادينغتون» – الرحالة السويسري ” جون لويس بركهارت ” – كتاب النيل الأزرق – تأليف: آلان مورهيد. ترجمة: د.إبراهيم عباس أبو الريش. دار النشر : دار بدوي.
ثم ينحني النيل انحناءة كبيرة مزدوجة، حيث تقع منطقة قبائل الشايقية، وهي منطقة تتميز بنواحٍ عديدة تجعلها من أَجمل مناطق النيل. فمئات السواقي تدور بها لِتُضَخَّ الحياة في الرمال القاحلة، فتُنْبِتُ الحبَّ والثمارَ على ضفتيه، وتزدهر الأشجار، وتمتد الخُضْرَةُ يانعةً رَيَّانةً تتخللها أشجارُ السَّنْطِ والطَّلْحِ وغيرها.
وعلى الجُزُرِ المُخْضَرَّةِ يَنْبُتُ الزَّعْتَرُ ذو الرائحة الشَّذِيَّة، وتكثر الطيور المائية غاديةً رائحةً، لِتَحُطَّ على الماء متصيدةً قُوتَها، أو لِتَرْفَرِفَ في السماء مُبْتَعِدَةً نحو أوكارها. وتنتشر القرى على الضفتين مُتَقارِبَةً مُتشابكةً، لا يفصلها عن بعضها سوى بضعة أميال، وأمام كل قرية تَرْسو قواربُها مُتَأَرْجِحَةً مُتَراصَّةً، ومِن خلفها تَرْتَفِعُ الأبراجُ الضخمةُ – أبراجٌ شُيِّدَتْ من الحجر الرملي، وبُولِغَ في سُمْكِ حَوائطِها، إذ تبلغ أحيانًا نحو ثلاثين قدمًا. وهذه الأبراجُ هي آثارُ العصر الذهبي لمملكة الفُونَج.
وكان للمنطقة مساوئُها أيضًا؛ فالذبابُ والبعوضُ يَكْثُرانِ بشكلٍ وَبائيٍّ في بعض الفصول، والحرارةُ مُرْعِبَةٌ والأمطارُ نادرةٌ. ومع ذلك، كانت البلادُ هادئةً بطبعها مُبْهِجَةً في طبيعتها، وشَرُّ ما فيها هو الإنسانُ.
الشايقيةُ كالفونجِ، شعبٌ غامضٌ، ليسوا نوبيين ولا عربًا، ولا يدري أحدٌ مِن أين جاءوا. وهناك أُرُومَةٌ في دَمِهم تَسْمُو بهم فوق جميع القبائل المحيطة بهم. وهم في شجاعتهم ومظهرهم كالمماليكَ مَهابَةً وسُطْوَةً، لا يختلفون عنهم كثيرًا. وكانوا يَعِيشون على نَهْبِ القبائل الأخرى القاطنة على ضفاف النيل، ويُقال إنهم كانوا يستطيعون حَشْدَ عَشَرةِ آلاف مُقاتلٍ، منهم ألفان على الأقل من الفرسان. وكان اسمُهم في هذا الجزء من السودان مُرادفًا للقَرْصَنَةِ والدَّمار.

وكتب عنهم بوركهارت يقول: «إنهم جميعًا يُقاتلون على صهوات الجياد، مُدَرَّعِينَ بالزَّرَدِ الذي يبتاعونه من سواكن أو سنار – إلا أنهم لا يعرفون شيئًا عن الأسلحة النارية. وأسلحتهم هي الحرابُ والسيوفُ والدُّرُوقُ، ولهم مَهارةٌ نادرةٌ في قَذْفِ الحرابِ مسافاتٍ طويلةٍ. وعندما يُغيرون، يحمل كلٌّ منهم أربعًا أو خمسًا منها في يده اليسرى. وجميع فرسانهم يُفَضِّلون الخيولَ الدَّنْقَلَاوِيَّةَ، أما مهارتُهم في الفروسية فلا تقل عن مهارة المماليك في مصر، إلا أنهم يُدَرِّبون خيولَهم على أن تهزَّ أرجلَها بعُنفٍ وهي راكضةٌ. أما سُروجُهم فشبيهةٌ بما رأيتُه من رسومات السروج الإثيوبيين، الذين لا يختلفون عنهم أيضًا في طريقة وضع أرجلهم في الركاب؛ كلا الشعبين لا يضع غيرَ الأصبع الأكبر للقدم. والشايقيةُ شعبٌ مستقلٌّ بذاته، لا يرتبطون أو يعتمدون على أية جهة أخرى، كما أن لهم ثروةً طائلةً من الحبوب والمواشي… ورغم ما عُرِفوا به من شرٍّ وتَعَدٍّ، إلا أنهم يُقَدِّسون الضيفَ ويُجِلُّون الرَّفيقَ، وصديقُهم يجد منهم كلَّ حمايةٍ وتَعْضِيدٍ، فإذا ما اعتُدي عليه شخصٌ في الطريق، فلا بدَّ أن يُعادَ له ما سُلِبَ منه كاملًا، مهما بلغت مكانةُ المعتدي حتى لو كان الملكَ نفسَه.
ولغتُهم هي العربيةُ، والكثيرون منهم يقرأونها ويكتبونها بطلاقةٍ. ولعلمائهم مكانةٌ خاصةٌ في نفوسهم ويُجِلُّونهم أعظمَ إجلالٍ. ولهم معاهدُ تُدَرَّسُ فيها جميعُ علوم الدين الإسلامي، وهذه لا تشمل الرياضياتَ والفلكَ. وقد رأيتُهم في مروى ينسخون بعضَ الكتبِ بِخَطٍّ أنيقٍ لا يقلُّ روعةً عن المخطوطات التي رأيتُها بالقاهرة. وعندما يَفِدُ طلبةٌ أغرابٌ من المناطق المجاورةِ لتلقِّي العلمِ، يقوم شيخُ العلماءِ بتوزيعهم على معارفه من أهل القرية أو المدينة، ليأووهم ويُطعِموهم ما شاء لهم أن يُقيموا لتلقِّي العلمِ. أما غيرُ العلماءِ من الشايقيةِ فعادةً ما يَنْهَمِكون في المسكراتِ التي يصنعونها محليًّا من البلحِ كالنبيذ والعَرَقِ. ويُقال إن نساءَهم كثيرًا ما يُجَانِبْنَ العفَّةَ والحشمةَ».
هذه الانطباعاتُ قد أَيَّدَها الرحالةُ الإنجليزي «وادينغتون» الذي جاء بعد بوركهارت لاستكشاف النيل. فقد وجد هؤلاء القومَ المتخصصين في شؤون القتالِ، على جانبٍ كبيرٍ من الكبرياء والجمال، وكتب عنهم ما معناه: «الشايقيةُ قومٌ من السُّودِ، وسوادُهم كالكَهْرَمَانِ الصافي المصقولِ، وقد بدا لعَيْنَيَّ اللتين لم تَعْرِفَا التحيزَ في ذلك الوقتِ، أنه أجملُ لونٍ يمكن أن يختارَه الإنسانُ. وهم يمتازون عن الزنوجِ في جميع النواحي – في صفاء لونهم، في شعرهم، في وسامة تقاطيعهم، في عيونهم البَرَّاقةِ النَّدِيَّةِ، ونظراتهم الهادئةِ الجذابةِ، وفي أجسادهم البَضَّةِ التي لا يُفْرِطون فيها للأوروبيين».
والشايقيةُ، كالمماليكِ، يَحْتَقِرون الفلاحةَ والعملَ بجميع صوره؛ فهو لا يليق إلا بالنوبيين الحقيرين – ويُلَقِّبون الأتراكَ والمصريينَ بالكلابِ. وهم لا يخافون شيئًا – كما قال وادينغتون – ويخوضون المعاركَ فَرِحِينَ مُبْتَهِجِينَ. والإشارةُ بالهجومِ عند الشايقيةِ – كما هي عند بقية العرب على ما أعتقد – تُصَدِّرُها عذراءُ، تَظْهَرُ في أبهى حُلَلِها وكامل زينتها، على ظهر بعيرٍ، فَتُرَدِّدُ الزغاريدَ مرارًا وتكرارًا. ومثلُ هذه الفتاةِ هي دائمًا موضعُ الاحترامِ والتبجيلِ من ذويها ومن أعدائهم على السواءِ. وعندما يَحْمِلون على العدوِّ، يُرَدِّدون عبارةَ «سلامٌ عليكم»، يُعْنون بذلك سلامًا من الموتِ. وقد كان السلاحُ في أيديهم لُعْبَةً من ألاعيب الأطفالِ، والحربُ في نظرهم ضربٌ من ضروب اللهوِ؛ فهم لا يطلبون من أعدائهم غيرَ التسليةِ، ولا يخافون من الموتِ إلا لأنه راحةٌ أبديةٌ لا نشاطَ فيها.
إنها نفسُ القصةِ القديمةِ تُعِيدُ نَفْسَها – قصةُ المحافظةِ على القديمِ بما فيه من وَحْشِيَّةٍ وسَلْبٍ ونهبٍ – قصةُ طائفةٍ احْتَرَفَتِ القتالَ، ولم يَدِبُّ التدهورُ فيها بعدُ. ورغم ما هنالكَ من شَبَهِ كبيرٍ واضحٍ بينهم وبين المماليكِ، إلا أننا نَمِيلُ لمقارنتهم بشعوب آسيا الوسطى في احترافهم للحروبِ؛ فلو أنهم وجدوا طريقَهم، لكان من السهل على الشايقيةِ أن يشنُّوا غزواتِهم المتواليةَ على مناطق الدندرةِ. وهم أيضًا – كالآسيويينَ – يَعْتَبِرون الخيلَ رمزًا للقوةِ وللحياةِ. ويُقال إن نساءَهم في شجاعةِ الرجالِ. ولا شكَّ في أنهم كانوا كالطفيلياتِ – وطفيلياتٌ من النوع الفتاكِ – يَعْتَبِرون كلَّ قافلةٍ صيدًا حلالًا لهم، وكلَّ حقلٍ وقَريةٍ دَعْوَةً ليتناولوا عليها وجباتِهم. وقد يُحارِبُ الرجلُ في جانب أعدائه، إذا ما رأى مصلحتَه في ذلك، ومهما كانت حُجَجُهم في مثل هذا التصرفِ، فهي غيرُ مقبولةٍ بين جماعةٍ متمدنةٍ. ذلك فقد كان في تقاليدهم شيءٌ من النخوةِ البدائيةِ – فالأسلحةُ الناريةُ مثلاً، كانت في عُرْفِهم نوعٌ من الجبنِ – ولا شكَّ في أنهم أضفوا شيئًا من التحررِ والحيويةِ على حياةِ الخُمولِ والكسلِ التي كانت سائدةً على ضفاف النيلِ.
وعندما زار بوركهارت السودانَ، كانت منطقةُ الشايقيةِ تمتدُّ ثمانين ميلاً على جانبي النيل شمالَ الشلال الرابعِ. وكانوا ينقسمون إلى ثلاثة فروعٍ، على رأس كلِّ فرعٍ منها زعيمٌ يُلَقَّبُ «بالمكِّ»، يَعيش في برجٍ على النيلِ. وكُلُّ فرعٍ من هذه الفروعِ كان يقوم بغاراتِه مُسْتَقِلًّا عن الآخرينَ، إلا أنهم عادةً ما يَتَّحِدون إذا واجهوا غازيًا أو عدوًّا مُشْتَرَكًا. وكانت هذه الفروعُ مُجتمعةً تُشَكِّلُ أَخْطَرَ قوةٍ على ضفاف النيلِ بالسودانِ، وما مِن عدوٍّ يأتي من مصرَ إلا ويَدْخُلُ معهم في اشتباكٍ مسلحٍ. وحتى بوركهارت الرجلُ المثابرُ، قد تردد كثيرًا في أن يُخاطِرَ بمفرده في بلادهم؛ فعندما وصل دنقلا رأى أنه إذا كان لا بد له من أن يزور مناطق أخرى على النيلِ، يجب أن يتجنبَ منطقةَ الشايقيةِ ويأتي عن الطريق الصحراوي الممتد من أسوان إلى بربرَ، وبناءً عليه عاد أدراجَه إلى أسوانَ.
وفي أسوانَ، شعر بشيءٍ من الاطمئنان تحت حماية القوة التركيةِ، فتمكن من جمع مذكراتِه وتنسيقها، كما تمكن من أن يكتبَ وصفًا لجزءٍ من النيلِ يبلغ نحو خمسمائة ميلٍ، وهو الجزءُ الواقعُ بين أسوانَ ودنقلا، والذي لم يكن معروفًا عنه إلا القليلُ جدًّا. ولم يَتْرُكْ شيئًا لم يَذْكُرْه – فمن قيام مساجدَ للمسلمينَ على أنقاض الكنائس المسيحيةِ والمعابد الفرعونيةِ، إلى لغاتِ القبائلِ وعاداتها، ومن ارتفاعِ النيلِ وانخفاضِه إلى المزارعِ المنتشرةِ على ضفتيه، ومن هَديرِ الشلالاتِ إلى فرسِ النهرِ والتمساحِ والنمل الأبيضِ – لم يَتْرُكْ شيئًا إطلاقًا لم يَذْكُرْه، حتى الهضابِ الصخريةِ المسلوبةِ الشبيهةِ بالأهراماتِ – وحتى المسافاتِ لم يَنْسَ أن يُسَجِّلَها بدقةٍ تُدْعَى إلى الإعجابِ. وكانت مذكراتُه هذه هي أولُ ضوءٍ نقيٍّ واضحٍ يُلْقَى على بلاد النوبةِ منذ القدمِ. وعندما تصفَّح أعضاءُ الجمعيةِ الإفريقيةِ خطاباتِه، وهم في لندنَ، وجدوا أنهم في موقفٍ غريبٍ شاذٍّ؛ فقد أصبحوا يعرفون عن مناطق النيل العليا وماضيها أكثرَ مما يعرفه عنها أيُّ شخصٍ في مصرَ.
اترك تعليقاً