للكاتب: أيمن هاشم
أتذكر بوضوح عندما غادرنا منزلنا في صباحٍ خريفي بارد، حزمنا الأمتعة على عربة، صباح لم تُشرق شمسه بوضوح في ظلمة الغسق، مضت السنين التي لم أعد أحصيها كما لو أنها مياه تدفقت من كوب وسالت على الأرض وتلاشت، أتذكر الصباح في مدني حينما تكون حوائط الطوب اللينة معطنة بالمياه و محمرة، سماؤها الملبدة بالسحب الداكنة، رائحة الطين بعد المطر، فناء البيت برماله البيضاء، كنا نضع الموقد في المنتصف ونشعل الفحم، نزيد من إشتعال النار ونضع على الفحم قناديل الذرة الصفراء، رائحتها وهي مشوية، إنتظار ثمار القشطة بالقرب من المزيرة لتنضج، أوراق الجوافة التي تتساقط بعد المطر، منظر الرزاز على حبل الغسيل وعلى أوراق الليمون، رائحة نوار النيم، أصوات الطيور – كنا نتفاءل بتغريد طيور القمري، هديله يعني مجئ الضيوف، الفناء الخلفي لبيتنا وحشائش النجيلة التي تنمو في كل مكان، النمل الأسود الكبير ذو اللسع الحار، أبواب الحديد الصدئة في أسفلها، مزلاج الباب وشكل الطين بين الطوب الأحمر، صوت جرس مدرسة طارق بن زياد، لعب الشطرنج في إجازات المدرسة، إنتظار مرور بنات مدني الثانوية، الأيسكريم والتسالي في المواصلات، المقاعد الأخيرة، طعم سلطة الأسود في فسحة الفطور، طعمية محمد على الحارة صباحاً، لعب الكرة حتى بعد أذان المغرب، وقون المغربية، الونسة في لساتك الحلة عن خططنا للمستقبل، الونسة حتى أخر الليل، اللمس الخفي في المواصلات، حصص التحفيظ في الصيف، اول ايام معرفة الإنترنت، تلفونات الباندا، اللعب البرئ والجري، وشم الأسماء على الشجر، بيوت الأرض وهي تتسلق جزوع النيم، رائحة الصابون وهو يسيل مع ماء الحمامات، الشجر الذي ينمو كثيفاً ويموت، الذاكرة تبدأ كثيفة وتموت، البيوت تبدأ كثيفة بالبشر وتموت، المدن التي لا تموت – مثل ود مدني – المُدن المشيدة بالحنين وشاي النعناع، الأرض حمراء اللون، رائحة الطين، نوار النيم والأغاني، الأغاني التي تنساب في المواصلات العامة، أغاني الإم بي ثري و البلوتوث، قضاء الليل كله بالسماع لمحمود عبدالعزيز، وقضاء بقية العمر في سماع مصطفى، الليالي البيضاء الطويلة والحنين، إكتشاف الأرق والحب، إكتشاف الشوق، إكتشاف التلعثم، الخيبات الأولى، المخاوف والليل الطويل، عربات الترحيل في الصباح، البنات يرتدين الأزرق الضيق، السموات بلونها الأزرق الضيق، اللذات الخفية الحادقة كطعم المانجو النئ، أول مرة أحس فيها بأن العالم يظلمني، أول مرة أرتدي فيها درع كونخيوت لأحارب العالم الظالم، الهزائم الحلوة التي تنتهي بتبادل أرقام الهاتف في ورق ودسه باليد، إنتظار الصبح في الطريق للمسجد وصوت تغريد حماد أبسيف المزعج، دكاكين الحلة التي تفوح منها رائحة صابون الحجر، طعم طحنية الصفيحة، حشوات المدرسة، البطاطس الذابل في حصة الفطور، إكتشاف العالم كشئ أوسع من المدرسة الثانوية، أستاذة الجغرافية التي حلمت بها، الصحو من الحلم كعريس منتشي، سرقة المانجو، الرمال على النيل في الصيف، شجر اللالوب في المقابر، طعم ثمر الزونيا، بقع الشطة على القميص ذو اللون السمني، رائحة كرة البلاستيك المحبحبة، أول أغنية لمصطفى سيدأحمد، أحلام الحب من المسلسلات المصرية، السهر، أشجار المانجو الكاذب، ألم الضرب بالحجر على الرأس، الشجارات الخاسرة، الأصدقاء، الملاريا، التبش بالشطة، طعم المرارة بسبب الملاريا، أول مرة أرغب فيها بالتقبيل-الفشل، أحلام اليقظة، الأصوات العالية في رأسي، محطة مظلة خالدة حيث تنتظر بنات مدرسة الشرقية، نوار الليمون على الأرض، المراوح في الصيف، الليالي الرطبة، قصص الحرامية، حقيبة جون سينا القماشية، أحذية السلفاكير والبناطلين الوسيعة بالأسفل، الندم، أبواق التراحيل في الصبح، كريم الجل الأزرق، الجفاف بسبب الشتاء، أصوات الكلاب في الليل، بقع البوهية قبل العيد، التسالي المملح اللاسع، بائعو الخضار، خطبة الجمعة، الضجيج عند الحصة الأخيرة، عطر آن آن، دردق محطة 18، إكتشاف السهر، رائحة المطر، عصير المانجو في السوق الكبير، سوق الأمجاد والممرات الضيقة، الفول المدمس، مراسيل العشا اليومية، الشوارع المظلمة، كتابة الإسم على مقاعد الحافلات، التلاصق البرئ، ممرات المياه الجارية بعد المطر، رائحة البول، حصص الجغرافيا والسهو لأجل السهو، الفراغ، العرديب بالشطة، الخبز من فرن حبيب الله، المراهقة، أول البثور في وجهي، الخجل، الأحلام المريبة، الموتى، النتائج السيئة، الذنب، السهو، الإحتلام، الرهبة، التلعثم، زقزقة البطن، التلاصق، الحنين، الفقد، الوهم، الألم، اللهفة، التجني، الليل، المطر، الطين، الروائح، الرمل، اللذة، الخوف، الرغبة البريئة في إبتلاع الماضي، الرغبة المحضة في العودة.
اترك تعليقاً