ما بين الشدة المستنصرية وحصار كسلا
الشدة المستنصرية
وصف الرحالة المؤرخ الطبيب الشهير عبد اللطيف البغدادي في كتابه ‘ الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر ‘ (وهو وصف لرحلته إلى وادي النيل في نهاية القرن السادس الهجري، ونهاية القرن الثاني عشر الميلادي) ما شاهده من مظاهر المجاعة التي ألمت بمصر، فيما بين سنتي 595 ـ 598 هـ(1198 ـ 1201 م)، فذكر أن:
وقد صار الفقراء لشدة المجاعة عليهم كانوا ينبشون قبور الموتى، ويلتهمون جيفهم، وكانوا يقتلون أولادهم ويأكلون لحومهم، وأن هذه الفظائع كانت لغرابتها في مبدأ الأمر موضع دهشة الناس، وحديثهم الذي لا ينقطع في غدوهم ورواحهم وساعات عملهم وسمرهم.
ولكن لم يلبث المصريون، لامتداد المجاعة لديهم وطول ممارستهم لأكل لحوم البشر، أن أصبحت هذه الفظائع أموراً عادية، بل أخذ كثير من الناس يجدون لذة في هذا النوع من اللحوم. فأصبحت لحوم الأطفال من أزكى أنواع الطعام عند كثير من الطوائف، وأصبحت تؤكل للذة لا لضرورة المجاعة، واخترع الناس طرقا عديدة لطهو هذه اللحوم وسلقها وشيها وتقديدها وتعبئتها وحفظها في التوابل، وانتشر ذلك في جميع أرجاء البلاد حتى لم تبق قريةمن قرى مصر لم يصبح فيها أكل لحوم البشر أمراً مألوفا. وحينئذ انقطع حديث الناس عن ذلك، ولم تثر هذه الأعمال لديهم نفوراً ولا إشمئزازا، ولم تعد مقصورة على الفقراءوالمعوزين من الناس، بل إن كثيراً من أغنياء القوم أنفسهم الذين كان من الميسور لديهم الحصول على أطعمة أخرى، كانوا يؤثرون اللحم الإنساني، ويعتبرونه من مظاهر الترف والأبهة. بل لقد كانوا يستأجرون بعض المجرمين والسفاحين ليصيدوا لهم الأطفال والشبان لتزدان موائدهم بلحومهم. وكان أرقى ما يقيمونهمن مآدب هي المآدب التي يقدمون فيها هذا الصنف الفاخر من اللحوم ! وكانوا لا يكتمون عن أصدقائهم من المدعوين حقيقة الأمر، بل كانوا يفخرون بذلك ويعدونه مبالغة في الحفاوة بضيوفهم وإكرامهم… ويختم البغدادي حديثه هذا بقوله: ‘ ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر. وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ؛ وإنما هو شيء صادفناه اتفاقا؛ بل كثيراً ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره ‘.
ويصف المقريزي في كتابه ‘ إغائة الأمة بكشف الغمة ‘ إحدى المجاعات التي حدثت فيمصر في ايام المستنصر (خامس الخلفاء الفاطميين في مصر 427 ـ 487 هـ 1035 ـ 1094 م) واستمرت نحو سبع سنين، كان أشدها وطأة سنتي 459، 460 هـ، فيذكر أنه قد استولى الجوع على الناس، فأكلواالقطط والكلاب، واختطف الإنسان من الطرقات ليؤكل، فوقف الناس في الطرقات يأكلون من ظفروا به، ويخطفون الآدميين بالكلاليب، وبيع لحم الإنسان عند الجزارين، وأكل الناس الجيف، وأكل بعضهم بغلة الوزير نفسه، فلما شنق الذين اتهموا بأكلها لم يتورع الناس عن أكل جثثهم تحت ظلام الليل.
حصار كسلا
في مذكرات علي جيفون التي دونها النقيب بيرسي ماشيل:
حين كنت أعمل في امیديب Ameddeb قام الزبير باشا بإرسال عدد من السودانيين للعمل جنودا في كسلا . وكان من هؤلاء الجنود واحد من الفرتيت اسمه (عبد البين) كانت كل أسنانه تشبه الأنياب في حدتها مما تطلب استخدام مبرد لبردها بعناية فائقة.
وكان ذلك الرجل الفرتيتي قد أتى لتوه من موطنه، وكان يخشى من أن المسبغة التي سيتعرض لها فمدينة كسلا كانت محاصرة بالدراويش، وقد يكون الأمر أكثر مما قد يطيقه.
ففي ذات ليلة لم يعد عبد البين قادرا على تحمل الجوع فانْسَلَّ في الظلام يبحث له عن طعام، فوجد في زريبة مجاورة طفلا ينام بجانب أمه فخطفه وأطلق ساقيه للريح نحو سهل قريب وظل الطفل يصرخ بأعلى صوته، فاستيقظت أمه وصاحت منبهة الآخرين، والذين ركضوا مسرعين خلفه. وكان عبد البين قد خنق الطفل وهو يعدو حتى وجد له مكانا التهمه فيه. وكان من عادة أهل بلاده أن يتخذوا هيئة ضبع عند ممارستهم لعادة أكل البشر. وأخيرا عثر الجنود على الرجل فأحاطوا به، وبقايا الطفل المأكول تحت قدميه. وعلى الفور تم القبض عليه، وأرسل للخرطوم للبت في أمره، فقررت السلطات هنالك أن تعيده لموطنه.
غير أن الفرتيت في مناطقهم كانوا يمارسون تلك العادة باستمرار، وعندما يسقط أحدهم مريضا ولا يرجى شفاؤه، يقوم أهله بعرضه في مزاد لمن يدفع فيه أعلى سعر. وليس للفرتيت أي مقابر، ولا توجد في لغتهم كلمة مقابلة لكلمة مقبرة.

وقد يكون الباعث على ذلك شدة العطف على الشخص، والشفقة عليه، والتفاني في حبه، والحرص على أن يمتزج جسمه بجسم الآكل، وأن يتخذ مقره الأخير في جوفه وأحشائه، فلا يذهب شيء منه إلى التراب، وتبدو هذه البواعث علىالأخص عند الشعوب التي يأكل فيها الناس المتوفين من أبنائهم وآبائهم وأهليهم وأحبائهم وذوى العاهات من أقربائهم ومن يبلغون منهم أرذل العمر. فعشائر الباتاك بسومطرة، يعتقدون أنهم إذ يأكلون العجائز وذوى العاهات من أقربائهم لا يفعلون ذلك لإشباع نهمهم الغذائي، وإنما يفعلونه رحمة بهؤلاء وإشفاقا عليهم. وعند عشائر البوتوكودوس تأكلالأمهات المتوفين من أولادهن بدافع من العطف والحنان. و أنه أكرم لجثة القريب أن يأكلها قريبه من أن تترك طعاما للدود والحشرات.
وفي مبحثه أكل لحُوم البشر وعوامل نشأته، يكتب علي عبد الواحد وافي :
انتشرت هذه العادة لدىعدد كبير من الشعوب البدائية وغيرها. فانتشرت في جنوب أفريقيا وغربيها ووسطها، في الكنغو البلجيكية والفرنسية وأقاصي السودان الجنوبي، وخاصة في عشائر نيام نيام (وهي عشائر تسكن السودان الشرقي بين النيل والكنغو وبحيرة تشاد، ويمتاز أفرادها بشعورهم الفاحمة المجعدة وطول قامتهم وأطرافهم السفلى، وقد ظن بعض الرحالة أن لهم ذيولا،لأنهم كانوا يسترون عوراتهم بجلود تتدلي من أطرافها الخلفية قطع مبرومه طويلة تشبه الذيول، وتبدو كأنها جزء من جسم الإنسان، وهم يسكنون الغابات؛ ويتجه قسط يسير مننشاطهم إلى الزراعة، أما معظمه فيتجه إلى الصيد وصناعة الفخار والسلال والخناجر والسيوف والحراب).
قصة ملك الفونج
وهنالك حكايات تروي عن مك للفونج في سنار كان ذات مرة قد تذوق كبد بشر، فأمر بأن يؤتى له بكبد طفل يوميا. ولهذه الفعلة قصة تتلخص في أن خادم المك كان قد اشترى كبد خروف من السوق ليطبخها لسيده ووضعها في سلة (قفة) على رأسه. ثم حامت فوقه حدأة ( حدية) كانت تحمل بين مخالبها قطعة كبد، ورمت الحدأة بما كانت تحمله وخطفت كبد الخروف التي كانت في السلة. وقام الرجل بطبخ تلك الكبد التي رمتها الحدأة في سلته لسيده، والذي سرعان ما اكتشف أنها ليست كبد خروف مما أعتاد عليه، فأمر بأن تطبخ له كبد من عجل ومعز وغزال وحيوانات أخرى ليحدد إن كان ما طبخ له ينتمي لأحد تلك الأنواع. وعندما تذوقها جميعا قرر أن ما طبخ له ليس كبد أي حيوان مما قدم له. وفجأة برقت في ذهنه فكرة أن الكبد المطبوخة قد تكون لبشر. لذا أمر بقتل طفل ليتذوق الكبد البشرية. وعندما تذوقها أيقن أن ما طبخه له خادمه إنما هي كبد بشر. ومنذ ذلك اليوم صار المك لا يستطيب غير كبد البشر ! وكان الرجل مكروها من شعبه على كل حال، فانقلب عليه شقيقه إسماعيل وقتله واستولى علي الحكم مكانه.

وقديكون الباعث على أكل لحوم البشر مجرد الرغبة في التشفي والانتقام والأخذ بالثأر من القاتل. فقبائل التيبي التي تسكن جزر المركيز لا يأكلون إلا جسوم أعدائهم، ولمجرد إشباع رغبتهم في الأنتقام. والسكان الأصليون لجزر سليمان لا يأكلون كذلك إلا لحوم خصومهم، ولا يفعلون ذلك إلا بقصد الإمعان في إذلالهم والتنكيل بهم، إذ يرون أن أكل لحم الكائن هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه إهانته وتحقيره. ولوحظ هذا الباعث كذلك عند طوائف أخرى كثيرة من آكلي لحوم البشر، ومثل هذا كان يحدث عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، فقد أكلت هند امرأة أبي سفيان وأم معاوية كبد حمزة عم الرسول عليه الصلاةوالسلام بعد أن استشهد في غزوة أحد انتقاما لمن قتل من أهلها في غزوة بدر. بينما تكررت حوادث أكل لحوم البشر ففي حرب الخامس عشر من أبريل بالسودان تم التشفي من قتلى الأطراف العسكريين بأكل لحمهم، وفي جنوب السودان أطعمت قوات متمردة الجنود الأسرى لحم زملاؤهم.
اترك تعليقاً