للكاتب: أيمن هاشم
في قصة – المكان – جريدة مصر 1931م، يروي لنا معاوية م نور كيف أن ما نسميه زمناً هو وهم لا أصل له أو خرافة تخلقها عقولنا، وأن الحقيقة الواحدة الباقية هي المكان، وأننا أحياء منذ أوائل الزمن إلى الأبد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي، يختلف قوةً وضعفاً بإختلاف الأفراد والأشياء – كان هذا قبل أربعة سنوات من إتهامه بالجنون .
إنتهيتُ للتو من مكالمتي ل ميم صاحب الضحكة الساخرة، وهو فتى لا يعرف من شوارع مدينة الخرطوم سوى المكتبات. يمشي واضعاً يديه جيبيه، غير آبه لفوضى الوجوه و اللافتات دولابه الذي ترتص فيه الكتب – كانت الحركة تضج فيه، كما عبثتُ فيه ليلتها، فعند بزوغ شمس اليوم التالي إستطعت الظفر بغنيمة لا بأس بها من كتبه .
كانت شقته في سطح إحدى العمارات بمصر الجديدة، تكتظ بالكتب، قليلة الأثاث والمقتنيات، كل ما كان يخيفه – ماذا لو مات و هو لم يقرأ كل تلك الكتب، تصفح كتاب طواسين الحلاج، قلبه بنظرة محب ثم قرأ: ” طآسين المشيئة – الدائرة الأولى مشيئته، والثانية حكمته، و الثالثة قدرته، والرابعة معلوميته وأزليته ، فلا و لا و لا .. فبقيت على الأولى ، فلعُنت إلى الثاني ، وطُرحت إلى الثالث وأين مني الرابع لو علمت أن السجود ينجيني لسجدت، لكن علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر فقلت في حالي هب انني نجوت من هذه الدائرة كيف أنجو من الأخريات، قرأ النص بسرعة و أعاده مرةً أخرى فغمرته السعادة:
ربما كان الرجل الأول يجلس في مكان ما – وذلك المكان على وعي مرادف لوعيه ، وكان الزمن دائري ، بمعنى أنه لا أخطاء ، فجاءه صديقه الشيطان – الذي كان مطلعاً على ماخفي من الوعي، سأله حينها ” هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟ – فذهب إلى المرأة الأولى التي هي مخلوقة من ضلعه الذي ينبض من رغبته المحضة للأشياء ، فأكلا أولى ثمار المعرفة عن الأزلية فهبطا إلى مرتبة الفناء وتغير الزمان من شكله الدائري .
أفرغتُ رف الكوميدونو لأحصل على بقايا الفكة، أعلنتْ الساعة دخول وقت الغداء وأنا لم أفطر بعد، أزحت مفكرة – ماذا في السودان وضحكتُ ، لبسِتُ ساعة اليد السويسرية، غيرت ملابسي، سلكت طريقي إلى السُلم، كان القمر ليلتها مضيء، و صوت الباعة المتجولين يطغى على السكون، روائح الفلافل والماء الأسن تغمر الرصيف، قادتني أقدامي إلى شارع النيل، أتذكرُ منظر الشباب يحملون زجاجات البيرة ، فتيات يقشرن التسالي بشره ويحدقن في المارة. إنتقلت من حالة الجوع إلى حالة سعادة عطنة فالجو خانق، ربما لم أكسب مواجهة الليلة فالتعب قد أخذ مني، صعدت إلى شقتي، تخيلتُ أن تلك اللحظة الغبية ستستمر، لكن يستحيل أن تصير أبد، ففاصلة صغيرة بين الصفر والواحد تقبع بينها حيوات كثيرة، أغمضت عيني و فتحتها فرأيت السقف الرمادي يتحرك من فوقي، رأيت نفسي أصل إلى جبل ما، كان الطريق يخترق غابة من أشجار السنط حيث أعمدة و تماثيل الألهة الخروف تمضغ الزمان وتجتره بطريقة عتيقة، كانت الرسومات المنقوشة عن صيادي الغزلان، أيادي الدم المطبوعة، تخيلتهم يعودون من رحلاتهم و يصرخون بأصوات غير مفهومة، يحكون للصغار مطاردتهم للوعول، سيطرت عليَ فكرة مفادها أن أرواح البشر لا تموت و أنها تحِلُ في الجدران والأرضية والسقف، كانت طيور البوم تنعق وظهر رجل طويل القامة لم أتبين ملامحه ، كان نصفه الأعلى عارياً ، و تحدث بلغة عربية بطيئة :
– أرى أن معاوية جائع للسر.؟
رجعتُ للخلف ولكنني كُلما خطوت للوراء أجدني أقترب منه. تيقنتُ أنه لا مهرب .
– قبل أن تصحبني، إحذر- لأنني سأخذ منك شئ وستأخذ منا أشياء .
– رددت: “الحقيقة “.؟
– لا يوجد شئ إسمه الحقيقة!
– أكملتُ جُملتي بسرعة – حقيقة المكان ؟
– عقلك يفكر بسرعة – تُريد أن تسبق زمنك ؟ ستكتب ما أقوله لك .
كانت الجُمل تتعرج، تبدو الكلمات كبُرادة حديد ضعيفة أمام قوة تلك الأسطر، تحسستهم كأطفال تائهين، كانت المعاني بشرية للغاية وحنونة .
– راقبني الرجل و أنا أُحرك زراعي في الهواء، بينما صارت ملامحه مألوفة، تارة يشبه والدي وعماتي، وتارة يشبه الفكي .
جلسنا لوقت طويل، كان قد أدار ظهره لي، أحسست بصوته اللاذع الحلو في حلقي كثمرة مانجو نيئة، كان يمسك في يده بورقة شجر عريضة وهشة ، ثم أطبق عليها قبضته فتكسرت، كان نثارها يستحيل إلى صراخ أطفال صغار ثم قال:
– إنه جدك الثري ، كنت أودُ إخباره بأن جدي ميت ، لكنه ضحك و قال:
– إنظر إلى الورقة فالأرض ستُعيد تدويرها، قد تصير بشرياً مرة أخرى، فالأطفال الصغار يحنون للطين، يبحثون عن الحيوات التي فيه.
هذا يعني أن الشكل الدائري للزمن لم يختفي، ربما صار مثلثاً – كانت عيناه تبرقان كقط ليلي ، لا يهمُك الشكل ولكن كل ما يهمك هو خياراتك تخضع لمهندس ما ، فكونك اليوم إنسان لا ينقص كمالاً عن كونك قش مستنقعات في حياة أخرى، فالهندسة تقوى كلما كان الشكل دائرياً، الغريزة تقوى بشكل الثدي الدائري، جمال القمر يأتي من شكله الدائري، ثم رسم بفحمة متكسرة على الحائط دوائر وقرأ :
– هذه الجملة مكونة، والله منزه عن هذه الأساطير *
شعرت في داخلي كأنما هنالك شئ يتكون يوازيني، كان أكثر هيجاناً، كاد ينفلت ثم يرجع فيكبح ذاته التي هي ذاتي .
– قال الرجل: أظنك قد عرِفت خطورة اللغة، بلعبة بلاغية بسيطة قد تتحول إلى ما لست عليه، تسرق الحيز المهيأ لأخرين، كلعبة كراسي بسيطة ولكنها غير كافية، إذا كان الجرح سيسبق الندبة، والألم السياط، والفناء ظهرك فلما العجلة ؟ اذا كان هنالك شخصين يبحثان عن قلم رصاص واحد، فيجده الشخص الأول منهما، ولا يخبر الأخر، ولكن الثاني قد يجد توقعات الأول المكانية غير مجدية فيبتكر إحداثيات جديدة من نفس مادة الوهم التي دلت الأول وبتراكيز قليلة مساوية للتي يبتكرها البحر ليخبئ السمك هل هذا يثبت أو ينفي وجود القلم ؟.
لو أنك وُلدت في زمن متقدم ستكون مجرد حلم لروائي يُدعي “ميم” – هنا توقف ” ميم ” عن الكتابة، ورفع عينيه من السطور التي يكتبها ، رمى قلمه ثم تناول هاتفه وإتصل بي كان صوته مهزوزاً ، أجبت :
– وين يا حبيب ؟
و إندفع يحكي لي – وان يحكي معناه أن يُخرِج نفسه للأخر بطريقة ما، عرفت بعد ذلك أنه لم يكن ثمة شخص يُدعى ” ميم ” ، و أنا لم أقرأ بعد ل معاوية م نور- الذي عرفت أنه كاتب قصة سوداني، فقط كان عليهما أن يحكيا عن الليلة ما قبل الجنون بلسان شخص ثالث يحلم بذات الأشياء.!ِِ
اترك تعليقاً