الكاتب: فاطمة عيسى
ذات ظهيرة حارقة تمتزج فيها رائحة عرقهم برائحة الازهار العطنة التي تفرزها الشجرة العملاقة التي يجلسان تحتها ،سأل جمعه صديقة هشام عن فقدان الذاكرة الانفصالي..
وكأن أنظمة دماغه تنبأت بما سيحدث له في المستقبل بناءً على حدس قائم على افتراضات منطقية، أي توقع المصائب قبل وقوعها. وعيناه تاهتا في تجاعيد هشام تلك الخطوط والثنايا التي خلفتهما اشعة الشمس الضارة ..أطال هشام النظر في عيني جمعه ثم إلى جذع تلك الشجرة الضخم الذي يستخدم كخزان ماء في فترات الجفاف، ونظر إلى أوراقها اليانعة الخضراء الغنية بالسكريات والبوتاسيوم. . اخبره إن هذا النوع من فقدان الذاكرة من الحالات النادرة جدا وقد يحدث فيه انهيار تام للوظائف العقلية مثل الوعي والادراك والهوية.. وتحدثا ايضا عن الاجزاء المسؤلة عن الذاكرة في الدماغ . وعن صلة الذاكرة بالزمن ، وتشعب بهم الحديث حول الزمن وانهيار فكرة الزمن المطلق التي تبناها نيوتن وفقاً للنظرية النسبية.. ودخلا في نقاش طويل بعدها حول الكون ونظرية الانفجار العظيم . وأخبره هشام أن الكون لم يبدأ بالانفجار العظيم بل إنه أقدم بكثير منه وأن المادة المظلمة تشكلت من الثقوب السوداء البدائية بسبب تقلبات كبيرة في الكثافة خلال مرحلة الانكماش الأخيرة للكون، وهي المرحلة التي حدثت قبل التوسع الذي أدى إلى الكون بشكله الحالي .”
فُقر جمعة فاهه من الدهشة وبقي صامتًا لأنه لم يكن لديه ما يكفي لمناقشة نظرية هشام الجديدة المريبة. يثق جمعة بكُل ما يقوله هشام، لأنه لم يكن من النوع الذي يسعى دائمًا لكسب النقاش. فهو يجيب دائمًا بحجج منطقية ويمتلك قدرة هائلة على إقناع الآخرين بأفكاره. يعتمد في ذلك على المغالطات المنطقية والحكمة والدهاء والتلاعب بالألفاظ اللغوية، وهو ما جعله محاميًا بارعًا قبل أن تحرمه الحرب من هذه المهنة.لكن ظلت تلك النظرية الجديدة التي طرحها هشام وتطرح فهمًا مختلفًا للمادة المظلمة تؤرقه لأيام طويلة قبل أن تعود ذاكرته فارغة من كل شيء (بعد وقوع قذيفة في فناء منزله واصطتدام راسه بشي صلب)حتى لم يعد يتذكر هشام وما كان يدور تحت شجرة التبلدي العملاقة، أو شجرة الحياة كما تسميها زهرة جدته. كانت زهرة تُروي له في طفولته قصصًا مثيرة حول هذه الشجرة التي تبدو مقلوبة رأسًا على عقب، وأخبرته سبب اتخاذها ذلك الشكل: أن الإله الخالق ضجر من كثرة تنقلها فانتزعها من جذورها وقلبها رأسًا على عقب فأصبحت أغصانها في التربة وجذورها في الهواء. كما روت له حكايات أخرى متعلقة بشكلها لكنها تبدو غير منطقية في نظره … كما كانت تسقيه من عصير ثمارها ليمتلك القوة. وتعتقد ايضا أن رمادها طارد للأرواح الشريرة. لذا كانت تحتفظ بجرة رماد معلقة في سقف منزلها للحماية من تلك الارواح التي كانت تؤمن بوجودها وتنظر إليها كجزء من قوى الشيطان التي تشجع الفساد والشر في العالم ..تذكر هشام فجاءة كلمات الجدة الغريبة ، التي همست بها في اذنه ذات يوم قائلة: “رماد هذه الشجرة علاج لكل داء ياصغيري إنها مدهشة حقًا “. انتفض واقفًا، كأنه وجد أخيرًا علاجًا لصديقه جمعه.رغم عدم منطقية الفكرة وعدم وجود دليل علمي يربط بين رماد التبلدي وعلاج أمراض الذاكرة،وإن كان يُستخدم في علاج بعض الأمراض الجلدية. ومع ذلك، حمل هشام جرة فخارية لها مقبضين على شكل اذنين وهرول بجنون نحو شجرة التبلدي العملاقة التي أصبحت هياكل متفحمة بعد إصابتها بالقذائف هي الآخرى .دمعت عيناه وهو يقف في تلك المساحة الداكنة، متخيلًا مشهد احتراقها. صراخ اوراقها ..ووقف صامتًا ليقدم التعازي لتلك الهياكل المتفحمة التي كانت رمزاً للخصوبة والعطاء لسكان الحي وملجأ لجميع الكائنات …ونظر إلى رمادها المتناثر في البقعة الداكنة، وهو ما كان يريده ومالا يريده في الوقت ذاته. تأمل هذا المشهد المرعب، وتضاعف ألمه عندما تذكر الوطاويط التي كانت تخرج ليلاً وتتأرجح فوق اغصانها بدلال ، وتمتص رحيق الأزهار الجديدة وتنقله على أجنحتها من شجرة لأخرى.تذكر فجاءة ما جاء لاجله ،ادخل يده في الرماد بحزن واضح وملى جرته مقدار مايفيد في استرجاع تلك الذاكرة العنيدة.وهرول مسرعًا، بملامح بريئة، يحتضن بين ذراعيه القويتين المرنتين الجرة ينظر اليها بإنبهار وسعادة بين الفينة والآخر ينطلق بسرعة اكبر .. تنهمر حبات العرق وتتراقص على ياقة قميصه الرمادي . يضحك بأسنان لؤلؤية براقة، ضحكة تشبه الأيام السعيدة التي عاشها برفقة جمعه ، يقفز قفزة رشيقة عالية يكاد يلامس بجسده الأفق الداكن تهتز ألأرض تحت قدميه وكذلك السماء التي كانت في تلك اللحظه تمطر بغزارة، لم تمطر ماسًا ولا ياقوتًا ولا قطرات ماء، بل تمطر رصاصًا وأجسامًا غريبة لا يعرفها، لكنه لا يبالي. ولكن ثمة رصاصة عائدة من السماء فقدت زخم الانطلاق، تنزلق نحوهما بسرعة بطيئة ومتزنة بصورة نسبية، نحو تلك الجرة. في ثوانٍ، هشمتها إلى نصفين، وتناثر الرماد أرضًا مصدرًا أنينًا وزفرات، وأرواحًا ظلت تلاحق هشام للأبد.
اترك تعليقاً