لذة التدخين الأولى، والفردوس المفقود

·

·

,

واحدٌ من أبطال مسرحيات أوسكار وايلد – الذين هم جميعاً أوسكار وايلد – وصف التدخين بأنه :

لذة كاملة في ذاتها، وبرر ذلك بأن التدخين لا يُشبع رغبتك فيه بتاتاً.

في عقب كل سيجارة مذاقٌ ملتبس من تلهفٍ للمزيد وزهدٍ فيه في آن. شعور لا ينتمي لحسرة الانقضاء التي تلي لذةً مباحة ولا للندم الذي يلي لذةً آثمة ولا للقناعة التي تلي اللذة المهترئة بالعادة في كلا الحالين.

فيما عدا أيام التدخين الأولى – لا السيجارة الأولى في ذاتها، فهي تعميدٌ بالنار والغثيان – وفيما عدا السيجارة التي طال قبلها أمد التدخين؛ فيما عدا هذه الفراديس المفقودة حتماً، فالمرء وهو يلقي بعقب سيجارته أو يدفنها في مطفأة، أو يعبث بجمرتها، أو يراقبها لحين انطفاءها – إطفاء السيجارة لهجة مثلها مثل لهجة الكلام – في كل هذه اللمسات الختامية .. يغيب شيءٌ منشود بعينه. مرمىً كان يبدو وكأنه شديد الوضوح والتحديد حال انضرام رغبة التدخين، ويبدأ في التلاشي مع إشعال السيجارة، وينتهي لمحض التباس وإبهام مع انتهائها.

ظاهرة تشبه وصف ويلز لمأزق الحداثة بأنها :

بددت نماذج الأشياء المنتظر حدوثها. بأنها ألغت القيامة؛ أي خط النهاية الذي تحفه صيحة انتصار الوصول.

المتعة المرتقبة، وكذا المتحققة، من سيجارة هي متعة منبتة عن كل فضائل المتع الأخرى، فهي ليست تخمة قانعة كالمتأتية عن وجبة دسمة، ولا صفاءً عذباً كالاستيقاظ من نومٍ عميق، ولا هي تنهيدة منتعشة كالتي تعقب كوب ماء أعقب عطشاً.

هذا ما أراده وايلد بالقول بأن التدخين يفشل دائماً في إشباع رغبته.

إخفاقٌ نبيل، لأنه إزاء غاية مثالية ومحالة. فالتدخين لا يقصد رغبة بعينها من الأساس.

كان فرويد يرى، ولا ندري إن كان مازحاً أم جاداً:

أن المرء يدخن عندما لا يجد للتقبيل سبيلاً.

ليس التدخين ممارسة متجهة، وليس له موضوع رغبة بل هو مزاولة لهروبٍ نزق، لانبتاتٍ متعمد، تحررٌ من ديدن الانهماك وقرار بالإنصراف من الموضوع للذات، لالتذاذ الذات بذاتها، وبوجودها مجرّداً.!

أحد أبطال قصص كيبلينج – الذي هم أيضاً جميعهم كيبلينج – كان يتجنب الحديث أثناء التدخين لأنه كان يرى أن الحديث يفسد التبغ الجيّد.

أما ستاب مساعد القبطان آهاب فكان يجد في تنفس دخان التبغ مندوحة من زحام الأغيار، من هواء العالم الممجوج من ملايين الأفواه.

غاية التدخين تأمل النفس لنفسها من خارجها ملتفتةً عن أي موضوع.

الحبّ في بيت شعرٍ لروبن داريو يجعلنا نرى الناس كما يراهم الله. هذه النضارة المستحيلة التي تهبها أيام التدخين الأولى لمرأى العالم، هي ما ينشده التدخين بعد ذلك سُدىً.

التدخين إذن هو الممارسة الأفلاطونية القصوى


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *