الكاتب: فكي علي
كان موكب السادس من أبريل المهيب تتويجا لمخاض البسالات العسير لقرابة الأربعة أشهر، عملت لجان الأحياء بجد لمناشدة الشارع، أعدّ النظامُ كل آلته القمعية لتعويقه وكسرِ شوكة المقاومة من خلاله، لم يخطر ببال أحدٍ أن ينجح، حالة من الإحباط والترقب تملأ القلوب والعقول، بيد أنّ كل ثائرٍ وضع على عاتقه مهمة إنجاحه، من التعبئة وحتى الخروج ولو مات وحيدا، فكان موكبا مدويا أفزع قيادات النظام البائد وفلوله وقض مضجعهم، عشرات بل مئات المواكب جاءت من كل فجٍّ عميق، الجميع وضع على عاتقه مسؤولية تحقيق الشعارات التي حدت الثوار منذ بدايات الثورة في أرض الواقع، والوصول بها إلى نهاياتها:
“مواكب ما بتتراجع تاني”
لم تكن مجرد مواكب تُعلِن عن نفسها وتنسحب من باب الكر والفر كما اعتادت، فالوجهة هي ساحة القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، وينبغي أن تصل ولو على أرواح الثوار، وقد كان.
“الليلة تسقط بس .. رص العساكر رص”
وقد تراص العساكرُ في متواليات لا نهائية، بهراواتهم، وبنادقهم، وشتى وسائل التنكيل، ولكن هيهات، فالثوار قرروا أن يحققوا هذه المعادلة الصفرية عملياً، وقد كان ذلك ببلوغهم بغيتهم، وتتويج ذلك المشهد بالإعتصام الباسل.
كان اعتصامنا أمام القيادة العامة هو التجسيد العملي لتلك الإرادة الحديدية والعزيمة التي لا تنكسر ولا تلين لمواكبنا الباسلة المعلنة وغير المعلنة، والتي كلما تم تفريقها تزاوجت من جديد في يوم الحج الأكبر، كان بلوغ القيادة هو الوقوف بعرفة، وقفة الحرية الكبرى، يقول عوض الكريم موسى في أنشودته العجيبة:
والحجُّ وقفةُ عبدٍ حُرٍّ بُكُلِّ محلِّ
عندما خطوتُ خطواتي الأولى في سوح القيادة إبّان انبلاج فلق الحرية في الحادي عشر من أبريل المجيد بصحبة بعض الرفاق وأنا أتجول بحواسي بين المشاهد الجليلة، مراقبا تواجد الثائرين في حِلَقِهم، منهم من يغني، ومنهم من يلعب الورق، ومنهم من يتبادل القبلات المسروقة، ومنهم من يُقَلّبُ صحيفة يلتمِسُ فيها أخبارا طازجة، ومنهم ساهِمٌ ببصره إلى السماء يناجي الله أن يُتِمّ نعمته وغيرهم كُثُر، كُلٌّ في شُغْلِه فاكِه، سألتهم بماذا يُذكّركُم هذا المشهد البديع؟ تفرقت إجاباتهم بين الأغنيات، فقصصت عليهم نبأ النور ودندنت:
ﺣــﻠﻢ ﺍﻟﻌــﺎﻟﻢ ﻧــﺎﺱ تِنســالم ..
ﻭﺍﻟﺒﻨﻲ ﺁﺩﻡ ﺻﺎﻓﻲ ﺍﻟﻨﻴـﺔ
للأﻃﻔــﺎﻝ ﺍﻟﻨﺎﺷﻔـــﺔ ﺿﻠﻮعــا ..
ﺑﻄﻤﻦ ﺭﻭعـا ﻭﺗﺒـﺪﺍ تغني
ﻏﻨﺎﻭي ﺍﻟﺒﻜﺮﺓ ﺍﻟﻜﻢ ﻣﺴﻤﻮعة
ﺣﺴﻴﺲ ﻃﻨﺒــﺎﺭﺓ ﻣﻊ ﻧﻘــﺎﺭﺓ ..
ﺻَﻔِﻘْﺔً ﺣﺎﺭﺓ ﻭﺩﺍﺭﺓ تنهني
ﻓﻴـﺎ ﺣﻠﺘﻨــﺎ عليكــي ﺗﺮﺍﺑـﻚ ..
ﻭﺃﻧﺖي ﺷﺒﺎﺑـﻚ ﺯﻳﻨﺔ ﺍﻟﺠَﻨّﻲ
أحلا ﻋـﺮﻭﺱ ﺍﻟﺒــﻠﺪ اللّتنــا؟ ..
ﻭﻻ ﺍﻟﻐﺒﺶ ﺍﻟﺮﺍّﺑـﺔ تهنـي؟
ﻭﻻﻫﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﺪﻥ ﺍﻟﺘﺼﺤﺎ – تقاوم –
ﻭتمحا ﻇﻼﻡ ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ عني
شاركوني الدندنة منذ الوهلة الأولى، فلما انتهيت أجاب الشريف – فعلا فعلا – واسترسلتُ هاشاً قطيع التأملات أنْ لابد أنّ مصطفى عندما غنى “أغني الناس الما بتسمعني .. العني بعيدة ومُبعَدة عني” كان يقصدنا بلا أدنى شك، يقصدُ هذا الجيل. ثم أحلتهم إلى مقاطع جاشت بها نفس الطيب صالح في إحدى خرائده، وصف فيها مشهدا لا يشبه إلا سكان فردوس القيادة:
”وأنا الآن تحتَ هذه السماء الجميلة الرحيمة، أُحِسُّ أنّنا جميعاً إخوة، الذي يَسْكَر، والذي يُصَلي، والذي يَسْرِق، والذي يَزْنِي، والذي يُقاتِل، والذي يُقتَل. الينبوعُ نفْسُهُ ولا أحدَ يدري ماذا يدورُ في خُلدِ الإله، لعلّهُ لا يُبالي، لعلّهُ ليسَ غاضِباً”.
ينبغي ألا نسمح لفجيعة الثالث من يونيو أن تنسينا فرحةً نبعت من كل قلب في البلاد يوم السادس من أبريل المجيد، فتعانقت في هذه البقعة المقدسة، لا تدري أهيَ يقظانةٌ أم ثمِلة، لا ينبغي أن نجعل صباحا واحدا ينسينا تلك الصباحات البهيةَ الجليلة، لفرط مرارة ذلك اليوم، ولأنهُ يُفتِرُ العزيمةَ عن المضي قدُماً في التغيير، ويختزِلِ ما جنيناهُ مِن بلوغنا لهذا المكان في يومٍ واحد، والذي لم نكن لنبلغه لولا وجودنا به، غيرَ أنّ هذا المكان كما قلت سابقا كان كُوّةً فتحناها في جدارِ الزمن بشموخِ النساءِ وكبرياءِ الرجال، نسترِقُ مِن خلالِها النظر لسوداننا الذي لطالما حلمنا به، السودان الوطن الواحد، كان الإعتصامُ نواةً تُشْبِهُ كثيراً في ملامحها ذلك العالم الذي بشّرَ بِهِ الأستاذ محمود في مطلعِ خمسينيات القرن المضاي عبر لوحة الجمال:
“عالمٌ يسكُنُهُ رجالٌ ونساءٌ أحرار، قد برئت صدورُهم مِن الحِقد، وسلِمَت عقولُهم مِن السخفِ والخُرافات، فهم في جميعِ أقطارِ هذا الكوكب، مُتآخون، مُتسالِمون، مُتحابون .. قد وظفوا أنفسَهُم لخلق الجمالِ في أنفسِهم، وفيما حولهم مِن الأشياء .. فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب، تسموا بهم الحياة فيه سمْتاً فوق سمْت، حتى تُصبِحُ وكأنّها الروضةُ المونِقة، تتفتّحُ في كُلّ يومٍ عن جديدٍ مِن الزهر، وجديدٍ مِن الثمر”.
لن نجعل أفئدتنا نهبا للحزن واليأس والقنوط، نحن لن ننسى ولن نغفر، ولكننا سنمضي واثقي الخطى صوب الحلم المنشود تحدو ركائبنا حمَاماتُ الأمل بالحريةِ والسلامِ والعدالة.
– الذكريات في كلو ليل تفتح حنينك بيت بكا!
لا لا لا لا لا
– الذكريات صادقة ونبيلة
وي وي وي وي وي
اترك تعليقاً