إبريلوس المقدس

·

·

,

للكاتب: محمد الهادي

في الزمن السحيق، عندما كانت الممالك العظيمة تتصارع على الهيمنة كانت هناك أرض تُدعى “أورانكا” حيث ترنُّ أصداء الحرية في قلوب أبنائها رغم أن قيود الطغاة كانت تحكم معاصمهم..في الليلة الأولى من شهر “إبريلوس المقدس” كان فارسٌ يُدعى “إيلمار” محتجزًا في حصون “أركاديا السوداء”، أفظع سجون المملكة كان السجن قابعًا في أعماق جبل جلمود حيث لا يُسمع إلا وقع الخطى الثقيلة للحراس، وهم يرتدون دروعًا من معدن داكن، وأصوات سيوفهم تتلاقى أثناء نوبات الحراسة…

لكن أورانكا لم تكن مجرد أرض للأسرى بل كانت موطنًا لتمردٍ جارف قاده جيلٌ من الشباب الذين ضاقوا ذرعًا بحكم الشيوخ والمطبلين للعرش أولئك الذين تمسكوا بالسلطة عقودًا طويلة في الأسواق والطرقات، كان الفتيان والفتيات يرفعون شعاراتٍ تزلزل الجدران، بينما كان الشيوخ يتهامسون في القصور عن “الطوفان القادم”.. مع حلول اليوم الأول من “إبريلوس” لاحظ “إيلمار” تغيّرًا غريبًا في السجن. الطعام الذي كان يُقدَّم للمساجين صار شحيحًا، والحراس استبدلوا بزاتهم العادية بلباس الحرب يتوشحون السيوف والرماح ويتبادلون نظراتٍ متوترة ليالي السجن صارت تضجُّ بأصوات تجهيز الدروع وشحذ النصال، وصدى صناديق تُنقل في الممرات المظلمة…

في الثالث من الشهر دخل رسولٌ إلى زنزانة “إيلمار” يحمل له كيسًا صغيرًا بداخله نعلٌ جلدي جديد ورداءٌ نظيف علامةً على أن أهل “أورانكا” لم ينسوه وأن الأمل ما زال حيًا،فرح الفارس كما لو كان عريسًا في ليلة زفافه فحتى شبح النسيان لم يستطع كسر إرادته… مع اقتراب السادس من “إبريلوس” تناهت إلى أسماع “إيلمار” أحاديثٌ عن تغيرات في المملكة كان هناك همسٌ يدور بين المعتقلين بأن المدينة الكبرى “أورانكا” تهتز وأن أبطالها يستعدون ليوم الفصل. جاء “أركاس العظيم” شيخ الحكماء في السجن ليعلن أن الزمن قد حان وأن الفجر الجديد يلوح في الأفق. في الخارج كانت جحافل الشباب تملأ الشوارع يقودهم “كايلوس”الفارس الذي نشأ في الأزقة و”سيلينا”ابنة الحداد التي حملت سيفًا لأول مرة وهي في العاشرة كان الجميع يعلم أن معركتهم ليست فقط ضد الحاكم بل ضد الحرس القديم من الشيوخ الذين توارثوا السلطة ورفضوا تسليمها كان الشيوخ يرسلون وعاظهم ليهدّئوا الجموع لكنهم جوبهوا بصيحات الغضب: لا حكمَ لكم بعد اليوم هذه الأرض لنا… في اليوم السادس لم يُقدَّم الطعام للمساجين ولم يدخل أي حارس لإحصائهم. كان الصمت مخيفًا، لكنه حمل بين طياته شيئًا من الرجاء فجأة دوّت أصوات هتافات بعيدة ثم قريبة ثم تحوّلت إلى هديرٍ كأنه صخب بحرٍ ثائر جاء أحد الحراس راكضًا عرقه يتصبب وقال بلهجة مرتعشة:

إنهم هنا… أهل “أورانكا” عند أسوار القلعة… في لحظةٍ واحدة، أدرك “إيلمار” أن ساعة النصر قد دقّت. لم يكن هناك مجالٌ للانتظار.



تصاعد صوت الموسيقى العسكرية التي لم يكن يسمعها إلا عند تنصيب الأباطرة أو عند سقوطهم، انفتحت أبواب الزنزانات تباعًا وخرج الأسرى بصفوفٍ متراصة، تقودهم أرواحهم التي لم تنكسر أبدًا، كانت الشمس تتوهج في الأفق وعندما وطأت أقدامهم ساحة القلعة علت الهتافات:

(لقد بزغ الصبح، فلا السجن باقٍ ولا السجان) ولكن، لم يكن الطاغية ليسقط بسهولة فقد احتشدت جيوشه حول القلعة يحملون دروعًا مكسوة بالذهب الأسود وسيوفًا تلمع تحت أشعة الشمس المحتجبة خلف دخان المعركة. اندلعت المعارك في شوارع “أورانكا”، وكان “إيلمار” يقاتل بجانب رفاقه الذين كانوا معه في ظلمات السجن. رنَّت صرخات النصر والهزيمة في آنٍ واحد، وسالت الدماء لتروي أرض المدينة التي انتظرت هذا اليوم طويلًا. في الحادي عشر من “إبريلوس” وفي لحظة بدا فيها وكأن النصر بعيد المنال خرج رجلٌ من بين الصفوف يحمل راية الحرية ويردد كلمات الأجداد الذين قاوموا الطغيان منذ الأزل.

كان “أركاس العظيم الذي رفع صوته قائلاً: إن ملك الطغيان قد انتهى وزمن الظلام ولى، ارتجت القلعة العتيقة بصدى كلماته واهتزت أركان المملكة حتى انكشفت الشمس من بين الغيوم. عند الظهيرة، جاءت البشرى. “سقط الطاغية” هتفت الجموع، وسرت الكهرباء في أجساد المقاتلين المنهكين. فرَّ جنود القلعة كالغبار المبعثر، واندفع أهل “أوران-كا” نحو الأسوار، يخلعون رموز الحكم القديم، ويحملون أبطالهم فوق الأعناق. في النهاية، وقف “إيلمار” أمام شرفة القصر الذي كان مسكن الطاغية، ونظر إلى المدينة التي تحررت بدماء أبنائها. لكنه لم يكن وحده، فقد كان “كايلوس” و”سيلينا” وآلاف من الشباب الذين صنعوا هذا النصر بجانبه. أدرك حينها أن الأسطورة التي صنعوها اليوم ستروى للأجيال القادمة، وسيظل “إبريلوس العظيم” يومًا خالدًا في سفر التاريخ، ليس مجرد ذكرى، بل عهدٌ جديدٌ لأمة يقودها جيلٌ لا يُقهر.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *