العباس

·

·

,

 منصور الصويّم

” 1 ”  

لحظةُ العباس بعد الأول، الجد الأكبر، كانت مغايرة تماما، وتقع بالضبط في العام 1506 ميلادي الموافق 911 بالتقويم الهجري.

وها هو العباس بعد الأول يجلس في ديوان أحد سماسرة الأنساب في سلطنة سنار الحديثة وقتها. الزمن اختلف، والتاريخ آخذ في التبدل ولا بد من مسايرة التغيرات العنيفة التي حدثت بعد خراب سوبا. فالنسب والأصل القديم أصبح غير مجدٍّ لا سيما لرجل يعمل بالتجارة ويحلم بالتقرب أكثر من حاشية السلطان حتى يصير من زبانيته المفضلين. سمسار الأنساب الجديدة، اسمه عبدالله ابن أبي الفرج، وهو رجل متلون كحرباء، فقد كان قبل فترة قصيرة يدعي نسبا لملوك العنج الغابرين، وقبلها بفترة أبعد قليلا كان يقدم نفسه باعتباره أحد أسلاف فراعنة النوبة العظماء، وها هو الآن يخرج للناس بنسب عربي مبين.!

 لم يجد هذا الرجل صعوبة كبيرة في الضغط على الجد الأكبر، العباس بعد الأول، حتى ينتزع منه المبلغ الذي يريده كي يهبه “شجرة نسب” محترمة مخطوطة بماء الذهب، تصله بأنقى وأسمى السلالات العربية، وتصله مباشرة بالقبيلة الأكرم: قريش.

وافق العباس بعد الأول، الجد الأكبر، على كل مطالب سمسار الأنساب المبجل بما فيها طلبه إضافة جاريتين نوبيتين فتيتين لم يمسسهما بشر، وغلام أمرد من جهة ما وراء البحر، إضافة إلى قطع الذهب المتفق عليها في وثيقة العقد المبرم. وحين سأله السمسار إلى أي بيت من البيوت القريشية المباركة يود أن ينتسب، ارتبك ولم يدر كيفية الاختيار، فهو يجهل تماما أسماء البيوت القريشية، ولا يعرف تفصيلات ودقائق النسب داخل هذه القبيلة العربية المباركة.

قال له السمسار بعد أن أحس بأنه يهدر الكثير من وقته الثمين بمحاولات التفكير والتذكر لاختيار النسب المناسب: اسمك الجديد، عباس؟ أجاب بنعم، فواصل السمسار: ما رأيك نقرن نسبك لاسم يطابق اسمك ومن نسل أشرف أشراف قريش. حدق – (العباس بعد الأول)، الجد الأكبر، مندهشا بوجه السمسار المتلون وسأله في حيرة: من؟

 فركّ السمسار يديه في حبور وقال له: العباس يا رجل، العباس بن عبد المطلب، عم النبي الكريم بشخصه.. إمتلأ العباس بعد الأول، الجد الأكبر بالفخر، وهو يبسط بين يديه شجرة النسب المباركة المنتهية إلى النسل الشريف (العباس) الأول، عم النبي العربي العظيم، وجده هو شخصيا، والأصل النبيل لكل أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده إلى يوم الدين. نفح سمسار الأنساب جنيهات الذهب، سلمه الجاريتين الفتيتين غير الملموستين من بشر، ومعهما الغلام الأمرد المستجلب من وراء البحار. أخذ شجرته الجليلة وانطلق في سوق الله أكبر..

” 2 “

 بدا العباس فخوراً جداً وهو يعرض على ضيوفه من الوافدين ومواطني البلاد، “شجرة نسب عائلته” العظيمة. ظل يشير بحماس كبير إلى الفروع المتعددة لهذه العائلة الكبيرة انحدارا من الجد الأكبر العباس الأول وحتى اللحظة التي يقفون على رأسها الآن، أي زمنه هو: المهندس العباس الأصغر، نسل السلالة المباركة…

“3 “

لم يفهم ضيوف العباس الأصغر الأجانب، وهما فلبيني وهندي، الغاية الحقيقية من عرض شجرة النسب العائلي المنتهية بالعباس القرشي، عم النبي الكريم. تناولوا مشروب المانجو البارد وهزوا رؤوسهم استحساناً. أما ضيوفه الآخرين، وهم مواطنان من أبناء البلد، وعربيان من اليمن ومصر، فقد بدوا مستمتعين جدا بهذا العرض وكأنهم يشاهدون فيلما طريفا. انتظروه حتى أنهى كل شروحه وسرده، بداية من رحلة أحد أحفاد العباس الأول من صحراء العرب إلى عمق غابات أفريقيا إلى لحظة العباس بعد الأول التاجر الغني المستوزر في مملكة سنار، حتى لحظة خروجه هو شخصيا إلى العالم، وللمصادفة السعيدة سفره واغترابه في بلد الجد الأول الشريفة المباركة بالنفط والقداسة. أطلق الجميع صيحات إعجاب، بل إن أحد المواطنين نهض وقبل رأسه، في حين قال الآخر: ما أعظمه من نسب، هيت لنا، يا رجل. *


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *