للكاتب: أيمن هاشم سيداحمد
دلّف الشاعر سيء الحظ والحزين للبيت، فتح الباب بعجالة. كان يشعر بقلق إمرأة حامل ومخاض مفاجئ، فهو يلد أطفاله في أي مكان كشجرة-عُشر كريهة ترمي بذورها الشائخة ذات الشعر الأبيض.
خلع قميصه وأخذ يفتش في جيبه، لامست يده القلم حينها أخذ رأسه يعمل كماكينة عربة قديمة، ضجة عظيمة كانت تعبث به، إرتعشت أصابعه لأول مرة حينما لامست شفتي حبيبته وهي تخبره، كان يود لو يُقبلها.
أخذت أصابعه ترتعش بشدة هذه المره، نزع غطاء القلم ورماه، صادفت يده علبة سيجائر فمزقها، أخرج بُطانتها البيضاء، كانت الكلمات تصعق إبهامه ككهرباء ساكنة، إبهامه البارد المتوقف النبضات. في لحظةٍ ما فلتت من يده فكرة الخلق، كان يعبث بالكلمات كإله مجنون، كان طين كلماته ليناً ومريعاً، مطاوعاً بطريقة مخادعة، في البدء كان يعجنها على وقع موسيقى لاذعة، فيصرخ -أنا جناح النعامة ، أنا الجناح الذي لا يطير، ثم سجد لكلماته في رعب ولم يرفع رأسه.
كانت أولى الكلمات تخرج كجنين مشوه من فتحة قلم الحبر، نافرة ترفض الرقود، لم يتوقف النزيف، أول ما خرج منها أرجلها، تتقرفص في بؤس، خرجت من بعدها المزيد من الكلمات، صغيرة وقمئة بعضها لا يوجد له يدين، بعضها أعضاؤه ناقصة ومشوهة تحبو بلا أطراف، تتلمس الطريق بشفتيها وتتعثر فتنقلب على ظهرها و تبكي عاجزة، تنتزع حبلها السري وتنفجر تاركة شخبطة، ما سكن بهدوء إلتصق كقراد هادئ يمتص صمت الشاعر منذ لحظتها وحتى الأن، الكلمات الأكثر إزعاجاً ذات الصراخ العالي كانت ترفض الخروج، بعضها يولد وهو يبكي ثم تهرب وتترك مكانها للفراغ المعدم.
كان الشاعراللعين يعمل كأنثى ملكة النمل، يفقس المزيد من اللعنات ويئن، لبعض الكلمات رائحة براز عفنة، كانت مريضة تتقيأ في كل مكان، أما المولودة والتي بصحة جيدة فهي فرصة لإثبات قوانين الإنتخاب الطبيعي لمآسي البعض.
بعد عُدة أعوام من إنتحار الشاعر اللعين، كان كلماته جاهزة للعُرس، جميلة بشكل قاتل، لبعض الكلمات ثياب سوداء مما نجا من الحريق العظيم، تبرز أثداؤهن الفاتنة من أعلى الفساتين كورود ناضجة، بأعناق شهية ترتسم خصلات شعرهن على الجانب كنباتات متسلقه، تُخفي الكلمات الناجية سُمرة في أعلى سيقانهن كعروسات نضجن على نار طلح، كانت الكلمات التي تتكلم عن الشفاه – لينة وطرية بل حمراء، محددة بكحل جامح، الكلمات التي خرجت بخط جميل كانت تجيد الرقص وليِ رقبتها كطيور البجع بل حتى خصورها مرهفة تتثنى في لدانة جرائد نخل، لبعضها غنج برئ في يديها المدربتين، لها أن تفتح بصيرة العمى في جسدك، أن تتوغل بنظراتها إلى مكامن الحياء.
كانت بعض الكلمات حزينة وعاجزة تجلس كطفل يملك الإجابة وأزرع وهمية – يؤمن أنها لن تُرى، أما الكلمات الفرحة فهي قليلة تجوع قليلاً فتأكل نقاطها فلا تُقرأ ، أما ما يُخص العدم فهي تتحد في حلق المغني، تمنحه القوة حتى تتأكل حنجرته و تتكسر ثم تطير كفراشات للحرائق المشتعلة فتزيد جزوتها، تُكسبها القدرة على الهلاك الجميل وتتناثر، الكلمات التي تنهي القوافي يُهلكها اللحن، تلهث مع الكمنجات عندما تعلو وتهبط ، تطاردها الأصابع بخيوط خفية. بعضها يجلس على المعنى كزجاج شفاف منثور، يُدمي كل تفكير حافي ويجعله فرح بتخضيب قدميه كعريس منتظر، كان رقصها بدون موسيقى في دوائر الأذن الوسطى جميلاً، فتبدأ بعض الكلمات بالدوران كدراويش، أو كأطفال يتزحلقون بين مراجيح الصوت المتعب للمغني – كمرور ريح بين أغصان جافة – صامت ومريض يُحاكي ما كانت تقوله حبيبة الشاعر- سئ الحظ و الحزين قبل وفاتها .
اترك تعليقاً