الأنيميزم(Animism) في الثقافة الدينكاوية: جدلية المقدسات في الأديان، والتقليد السائد(العرف القانوني)
بول مثيانق
في حَرَكَةِ الوجود الإنساني تتلاقى الحكاياتُ البدائيةُ بالتشريعاتِ السماوية، تظهر ثقافةُ الدينكا في جنوب السودان كمثالٍ أنثروبولوجي فريد لتعالق/ إرتباط المُعتقد الأرواحي مع البنى القضائية.
تُقدِّم الميثولوجيا الدينكاوية نسيجاً رمزياً تتداخل فيه مخافةُ الإله مع مبادئ الحكمة الإنسانية، مُشكِّلةً نظاماً أخلاقياً متجذراً في الوعي الجمعي، حيث تُعَدُّ الأعرافُ القانونية امتداداً لتصوراتٍ دينيةٍ ترفدُها طقوسٌ تأويليةٌ تربطُ الأرضَ بالسماء.
“حَمَلة الرماح” (Benypiith)
تتجلى هذه السيميائية الروحية في المجالس القضائية التقليدية التي تُدار بواسطة “حَمَلة الرماح” (Benypiith)، وهم كهنةٌ-أنبياء يُعتبرون وسطاءَ بين إله السماء “نيالِج” (Nhialic) والمجتمع البشري. وفق التصور الشعبي، يحمل هؤلاء الرموزُ (سلطةً إلهيةً) مُفَوَّضةً تُخوِّلهم من تفسيرَ إرادة السماء وتنفيذَها عبر طقوسٍ كهنوتيةٍ تبدأ بتوجيه الصلوات مباشرةً إلى “السماء Nhialic”، مُستحضرين حكمته في فض النزاعات. هذه الممارسة لا تُجسِّدُ مجرد آلية قضائية، بل تُعيد إنتاجَ العقد الاجتماعي الميثولوجي الذي يُقيم العدلَ كتجلٍّ للسلطة الإلهية. *كهنةُ الرمح Benypiith* تُعيدُ هذه الطبقةُ الكهنوتيةُ تعريفَ مفهومِ النبوة في الثقافات التقليدية؛ فليسوا مُبلِّغين لوحيٍ منفصلٍ، بل مُفسِّرين نشطين لإرادة “السماء” عبر آليتين متلازمتين:
1. *الطقس اللغوي*: توجيه الخطاب مباشرةً إلى السماء بلغةٍ استعاريةٍ تَستدعي الحكمةَ الإلهيةَ في تشخيص النزاعات.
2. *الطقس الجسدي*: استخدام الرمح – ليس كأداة حربٍ، بل كجسرٍ رمزيٍ يربطُ بين الدماءِ البشريةِ والنظامِ الكوني. هذه الممارسة تُذكِّرُ بنموذج “الكهنوت المُلكي” في أعمال إيفانز-بريتشارد حول النوير، حيث تُستمدُّ الشرعيةُ من تفويضٍ إلهيٍ يَفرضُ على الحاكم التزاماً أخلاقياً يتجاوز المصالحَ الزمنية.

حيث يُروى في الأمثال الشعبية الدينكاوية حكايةُ الضبع الذي يُعلن: “القانونُ وليدُ السماء، وحتى لو كان لإبنُ عمِّي الثعلبُ حق، فسيَنالُ حقه أمامي ولو سبق أن جرحني”.
هذا التشبيهُ الاستعاري لا يُبرِزُ فحسب مبدأَ النزاهة فوق الانحيازات القبلية، بل يَكشِفُ عن تصورٍ ميتافيزيقي للعدالة ككائنٍ مُتعالٍ، يُجسِّدُ اتّزانَ الكون الذي يحكمه “نيالِج _ إله السماء” وفق تصور الدينكا. هنا تلتقي الحكمةُ الأرضيةُ بالرهبةِ السماوية في معادلةٍ واحدة، مما يُذكِّرُ بالمبدأ التوراتي في سفر الأمثال: “بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ” (أمثال 9:10)، لتُظهرَ التشابهاتُ العابرةُ للحضارات كيف تُحوِّلُ المخافةُ المقدسةُ العدلَ من مفهومٍ بشريٍّ إلى قيمةٍ كونية.
*الخوف من الرب والتماسك الرمزي في الممارسات القضائية لدى شعب الدينكا*
“البَانبيث” (Banbieth) / الكجور / السحر
في سياق دراسة البنى الاعتقادية المُؤَسِّسة للعدالة التقليدية لدى شعب الدينكا، يبرز مفهوم مصطلح شخصية “البَانبيث” (Banbieth) كحجر زاوية في فهم التداخل بين المُثُل الدينية والتنظيم الاجتماعي. وعلى الرغم من الميل الشائع لدى الخارجين عن السياق الثقافي للدينكا لترجمة المصطلح إلى “الكجور” (السحر) باللغة العربية، فإن هذا التوصيف يُعدّ تشويشاً دلالياً ينم عن قصور في إدراك الطبقات الرمزية العميقة لهذه الشخصية.
البانبيث، بحسب التصور المحلي، ليس ساحراً بالمعنى الأنثروبولوجي الكلاسيكي، ولا ينتمي إلى عالم الممارسات الـ”كجورية” التي تعتمد على التمائم أو المُخَدِّرات أو ادعاء الكشف عن أسباب الموت أو المرض. بل هو وسيط روحي يُوجِّه خطابه مباشرة إلى “نيالِج” (Nyalich) – المُعادل الميتافيزيقي للإله الأعلى في اللاهوت الدينكاوي – دون وساطة الأرواح الثانوية التي تستهوي ممارسي السحر. تُجسِّد هذه العلاقة الفريدة بين ال(بانبيث) والرب، تجذُّراً لاهوتياً يرفض الثنائية الدنيوية/الماورائية، حيث تتحول الصلاة إلى فعل قضائي مُلزِم.
ففي المحاكم العرفية، عندما تُشكك الهيئة القضائية في مصداقية شهادة المتهم، يُستدعى البانبيث لإدارة طقس القسم الذي يتجاوز كونه إجراءً شكلياً ليصير تعاقداً وجودياً مع المقدس. يُمسك المتهم بالحربة – الرمز الأبرز للسلطة الروحية والقضائية – ويهتف:
“يا نيالِج، سيدي القدير، أتلو الحق أمام هذه المحكمة. إن زَيّفتُ الكلام أو حرفته، فلتُنهِ حياتي بهذه الحربة”.
تتحول الآنية هنا إلى مَسْرَحٍ لاهوتي: تُلامس نصل الحربة كتفيه الأيمن ثم الأيسر، كتأكيد على ثنائية العدل (اليمين) والرحمة (اليسار) في الكون الدينكاوي، قبل أن تُوضَع أفقياً على الأرض ليعبرها المُتَّهم ثلاث مرات – إيماءة إلى الثالوث الرمزي (الحياة، الموت، الولادة من جديد) الذي يُهيكل الزمن الوجودي لهذه الثقافة.
هذه الطقوس ليست مجرد استعارة للسلطة، بل هي إعادة إنتاج لـ”الوعي الجمعي” (كما يصوغه دوركهايم) عبر توظيف الرموز المادية (الحربة) كجسر بين القانون البشري والإرادة الإلهية. فالقسم هنا لا يُختزل إلى ضمانة أخلاقية، بل يصير فعلاً كلامياً (مُقدَّساً) يُعيد تشكيل الواقع الاجتماعي عبر ربط المروي (السرد القضائي) بالميتافيزيقي (نيالِج).
وبذلك، يصير البانبيث حارساً لـ”اللاهوت العملي” الذي يُوحِّد بين الشرعية القانونية والشرعية الروحية، مُحَوِّلاً المحكمة إلى فضاء طقوسي تُختبر فيه الحقيقة ليس عبر الأدلة المادية، بل عبر الاستجابة الإلهية التي قد تأتي على شكل حياة أو موت للمتهم. هذا التشابك بين الخوف من الرب والخوف من انهيار النسيج الاجتماعي يكشف عن رؤية أنثروبولوجية فريدة، حيث يُدار الصراع البشري عبر حوار مع المطلق، لا عبر قوة القوانين الوضعية وحدها. و لا ينفصل الخوف من الرب عن تشكيل وعي جمعي يربط الأخلاق بالوجود ذاته، حيث تُحوَّل الخطيئة إلى نجاسةٍ ملموسة، تهدد الفرد والجماعة كالوباء.
ومن بين هذه التشكيلات الروحية، تطفو معتقدات حول فعل (الزنا) فهو يجسّد الصراع الأبدي بين النقاء والفساد. تتحدث الأساطير الموروثة بين بعض عشائر الدينكا عن عواقب الزنا ككارثةٍ وجودية، لا تقتصر على انتهاك القانون فحسب، بل تتسلل إلى الجسد والروح.
فالزاني—سواء أكان رجلاً أم امرأة—يحمل في أعقابه نجاسةً خفية، كظلٍّ ملعونٍ يلتصق بالأرض والهواء. وإن مرَّ قرب مريضٍ، حتى ولو كان في حالة احتضار، فإن النجاسة تتسلل إليه كسُمٍّ يزيد آلامه، فيتفاقم المرض كالنار في الهشيم. هكذا يُصبح المُذنب مُنبوذاً بلا قرار، تُراقب خطواته بعين الريبة، ويُمنع من الاقتراب من أي مَرضى، خشية أن يُطلق العنان للعقاب الإلهي. لكنَّ الأسطورة لا تترك البشر في فوضى الرعب؛ فهي تمنحهم طقوساً لاستعادة التوازن.
حين يغادر الزاني مكاناً ما، يُسرع الأهالي بحمل شعلة نار مُتّقدة، يمررونها على آثار أقدامه، وكأنهم يحرقون بصمات الشيطان من على الأرض.

النار هنا ليست مجرد أداة تطهير، بل هي رمزٌ للفعل الإلهي الذي يمحو الظلام، ويُعيد ترسيم حدود القداسة. وفي رقعة الأرض التي لمسها المُذنب، تُقام طقوسٌ مماثلة، تُحوّل الفضاء المُدنَّس إلى مكانٍ طاهرٍ بقوة الأسطورة والإيمان. من منظور أنثروبولوجي، لا تنفصل هذه الميثولوجيا عن حكمة الجماعة الخفية. فالنفور من الزنا لا يُبنى على التشريع وحده، بل على خوفٍ عميقٍ من تلويث الروح الجمعية. حتى الأصحاء—الذين لم تُصبهم أمراض—يُحجمون عن التواصل مع الزاني، ليس خوفاً من العدوى الجسدية فقط، بل خوفاً من أن تُلامس نجاستُهم نقاءَ المجتمع. هكذا تتحول الأسطورة إلى قانونٍ غير مكتوب، يُدير أفراد المجتمع أنفسهم وفقاً له، دون حاجة إلى شرطة أو سجون.
في هذا العالم، حيث تتحول الأخلاق إلى طقوس، والخطيئة إلى وباء، تُعيد الثقافة اختراع نفسها كل يوم.
بهذا السياق، يصبح النظامُ القضائي الدينكاوي مرآةً لبنيةٍ دينيةٍ أعمق، حيث تُعاد صياغةُ القانون عبر عدسةِ الماورائي. فـ”حَمَلة الرماح” (Banbieth) ليسوا قضاةً فحسب، بل حراساً للعهد بين السماء والأرض، يُذكِّرون المجتمعَ بأن الشرعيةَ الأخلاقيةَ مستمدةٌ من سلطةٍ تتجاوز الزمني. هذه الرؤية تُؤسِّسُ لحكمةٍ جماعيةٍ ترفضُ اختزالَ العدل في العقوبات المادية، بل تربطه بتطهيرٍ روحيٍّ يُصلحُ الخللَ في النسيج الكوني نفسه. هكذا تتحول الأنيميزم الدينكاوية من مجرد اعتقادٍ بأرواح الطبيعة إلى فلسفةٍ وجوديةٍ تُعيدُ تعريفَ العلاقة بين السلطة والمقدس، حيث تُصبح إدارةُ العدل طقساً دينياً، والحكمةُ الإنسانيةُ صدىً لإرادةٍ إلهيةٍ تُذكِّرُ البشرَ بأن القانونَ الأرضيَّ ماهو إلا ظلٌّ لقانونٍ سماويٍّ أعظم.
- المصادر:
كتاب القانون العرفي للدينكا، للكاتب/ جون وول ماكيج .
الدينكا في السودان، للكاتب/ فرنسيس دينق
اترك تعليقاً