باريس

·

·

,

منصور الصُويّم

(1)

فوجئ أصدقاء وندماء الشاب بلة الشيخ بانقا الشيخ حسن الشيخ دفع الله الطاوي*؛ برؤيته ينتفض في حالة هسيتريا ناضجة وهو يصرخ في وجوههم:

ك+++م البلد دي، كرهت كل شي.. يا سفلة.

قبل ذلك بساعة تقريبا كانوا قد توافدوا مباشرة بعد مشاهدة عرض مسرحي هزيل في مسرح أم درمان، جاءوا محملين بعرقيهم ومشاوييهم وأداروا قعدة محترمة في غرفة صديقهم بلة في حي الشهداء. سكروا وغنوا وضحكوا كثيرا، بل إن بعضهم كشف أسرار خطيرة عن الحراك الثوري بالبلاد.

الجميع كانوا في حالة نشوة ومحبة خمرية صافية، إلى أن انتفض بلة انتفاضته المفاجئة وأخذ يسب ويلعن البلد ويشرع في تكسير زجاجات الخمر أولا، ثم أثاث الغرفة بعد ذلك، قبل أن يندغم في بكاء طويل تقطعه كلمات ذات نهنات أسيانة مثل:

ليه كدا بس.

أو: يلعن د+++كم زاتو.

و: سايبها ليكم، راااحل، استمتعوا.

الأصدقاء، الندامى، السكارى، كانوا يتابعون حالة الشيخ بلة – كما ينادونه حين يترقرق السكر – باندهاش ممزوج بقبول متواطئ مع الثورة التي انتابته، لذا لم يعترض أحد على تحطيمه للأشياء وإساءته للوطن، بيد أنهم أصيبوا بالصدمة وسرى بينهم الفزع التام حين أنزوى بلة في ركن من أركان الغرفة وأخذ يردد بين نهناته الباكية:

باريس، جايك أنا، باريس، يا رب باريس، سهل يا مسهل، باريس، يا الشيخ الطاير ود بانقا، باريس.

الصدمة المفزعة حدثت بالضبط حين تلاشى بلة بغتة من أمام الأعين، في حركة خاطفة أشبه بضرب البرق، تاركا ركن الغرفة خاوياً والرفاق الندامى يتخبطون فراراً صوب الباب.

(2)

للمصادفات العجيبة، في ذات اللحظة التي حل فيها جسد بلة في أرض باريس، كان هناك لاجئ سوداني يتجول مستاءً في بقعة خضراء قريبة من برج إيفل؛ فتعثرت قدماه بجسد الشاب المتكور في قعاده الركني وهو ينهنه باكياً:

باريس، جايك، باريس، يا رب باريس، سهل، باريس، يا الشيخ الطاير ود بانقا، باريس.

فأخذه معه مذهولاً ومضى.

__________________________________________________________

*جاء في كتاب “شيوخ وأولياء سنار” للعلامة ود مرين: “هو الشيخ الورع الزاهد الناسك، طاوي الأرض، دفع الله بن بانقا بن الفضل الطاير والطاوي. ومن بركته أن تلاميذته سألوه يوما أن يطير، فطار وهو جالس على فروة صلاته حتى حل في مكة المكرمة، فطاف السبع طوفات ثم آب طائرا في لمح البصر”.

____________________________________________________________


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *