أشباحُ غزة

·

·

,
للكاتب: أيمن هاشم سيدأحمد

أنا الأن في إحدى أحياء قطاع غزة، لا شئ غير البيوت المهدمة، النارُ تمضغُ الأثاث ببطء نافثة دخانها الأسود الذي يظلل الأفق كسحابة عظيمة، البُيوت فقدت رباطة جأشها وهي تنهار، الشمس المريضة خلف الأطلال الأسمنتية تغرب ببطء وهي تحيك غُروب جنائزي تخرج منه أزمنة ماضية، في وقت فقدت كل الجثث قدرتها على النفاذ و هي تعبر أزقة الموت، البحر يضمد الأحياء المكسرة حوله كشريط جروح.

الجثث الرطبة المقيدة في المستشفيات تفك رباطها و تقف باحثة عن أهلها، بينما تخرج البنات الصغيرات من تحت البنايات المهشمة  بأرجل مدمية وثياب يملؤ ها غبار الخوف، يعبرن حلم أمهاتهن اليومي.

تُحمل جثتي في حقيبة هاندباك منذ أسبوع، أذكر إنني كنت نائماً وإستيقظتُ مذعوراً على صوت دوي عنيف، كان هاتفي يرن، حاولت الحركة في ذلك الظلام ولم أستطع تعديل جسدي،  أحسستُ كأنما أمسكت بي أقدام طائر مطوياً في سماوات قد إنهارت.

أفقت مثلهم على أصوات التكبير التي قربتها الرياح و أدركت أن الوقت المقصود ليس بعيداً  إنتابني الفزع قليلاً حينما إقترب مني بوجهه اللحمي الأحمر، كان يهش الذباب البقري عنه ، حاولت التطلع إلى وجهه لمعرفة السمرة الحرائقية التي كست رقبته و بدا لي شبيهاً بأولاد البحر- وفي رأسه شوك ، ممسكاً بمسامير في كلتا يديه.

برقة بالغة مسح على رأسي، و أدخل يده المثقوبة في جيب بنطلوني أبصرت أقدامي مهشمة ثم جر مصاريني كحبال، ثم طويت نفسي وأدخلني في  حقيبة الهاندباك، إلتفتَ ناحيتي بنظرة غائمة تشع حزناً و تقطر عينيه ماءاً ثم أشاح بيديه وكأنه لا يرغب في الكلام.

فتحت بيدي  سحاب حقيبة الهاندباك، صرت أرى أقدام العابرين ثم رأيت تسعة و عشرين قدم أخرى تركض، و اللهاث الذي يعلو بجواري يطغى عليه تكبير وتهليل، الأشباح التي أخرجوها من أنقاض البيوت تدعس المستوطنين في زقاقات الكيبوتس، صِرتُ أصرخ ” أركض يا سيدي “.

طفونا جميعاً لوهلة ، أفتقدت القدرة على التوازن ، ركضت الأغنام أمامنا و شعرت بخفة بالغة و في تحليقي البسيط حدقت للأسفل أحصيت على الأرض عشرين بيتاً مهدم، سُحبٌ بلون أحمر داكنة تغطي الأفق، شعرت بخفة الموتى المترادفين بجثثهم الممتدة في الأكفان البيضاء، و خلفي مر تيار هواء جاف و قوي لفجر لا يُرى، تقرفصتُ عندما تحركنا جميعنا كطيور ناحية البحر، حتى الجداجد المتفحمة تحت الجدران توقفت عن الصرير، صور الأزواج تحركت من إطاراتها وغادرت مع الشهب في الشفق، صليتُ مغفرة للجسد، آمين.

حملني السيد في حقيبة وسلمني لله في ستة ساعات، كما تحمل أم جنينها، هنالك خرجتُ كملاك صغير خارج من شرنقته، كنا قافلة من الأحلام المزعجة التي إخترقت الجدار، هذه المرة بدون ضوضاء ولا سلاح، دخلت في أذن المستوطن عبر فروة رأسه الأشقر، أخبره ك-رنة جرس هاتف: إحمل جثتك وإهرب من أرضنا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *