جورجيت – الفتاة التي تنتظر رسالة

في ثمانينات القرن الماضي وفي المدينة الساحلية التي تجاور البحرالأحمر، عاشت جورجيت اليونانية الأصل كأسطورة حية في تلك الحقبة الزمنية. كانت فتاةً كالفراشة الذهبية، تسابق الريح بدراجتها نحو ملاعب التنس الأرستقراطية في النادي القبطي، وتدرس في كمبوني، بينما ينحني الجمالُ لمرورها، وكأن المدينةَ تُمسك أنفاسها خجلاً من بهائها الفاتن. لكن القدر، كان ينسج خيوطاً مأساوية لحكايتها، ويجعلها تقضي باقي عمرها تنتظر رسالة.!

في الحي الأغريقي، حيث تتعانق أصوات الشوام والأقباط والهنود في فسيفساء ثقافية، استقر عبد المحسن الشاب الريفي الوسيم، الذي انتقل للعمل موظفاً. كان منزله الجديد شاهداً على عزوبية قاسية: جدرانٌ تتنفس رائحة السجائر، وأوراق لعب مبعثرة، وشاي “أبو تكة” يغلي فوق موقد صدئ. لكن نافذته الصغيرة كانت تُطل على عالم آخر: غرفةٌ تنبعث منها ألحان فيروز الساحرة، تتعيش فيها فتاةٌ كأنها ملاك هبط من لوحةٍ رومانسية. كانت جورجيت، التي لم تكن تعلم أن صوتها الصباحي سيصبح إدماناً لشابٍ يتربص خلف الزجاج، مبهوراً بظلها الذي يرقص مع أنغام “زهرة المدائن”.

الأيامُ نسجت خيوط لقاءاتهما الخجولة. ابتسامةٌ تتبادل مع نظرة، وتلويحٌ باليد يُتبع بموعدٍ خاطف. حتى تحولت تلك الهمسات الصامتة إلى حبٍ يرفضان الاعتراف به. في أحد الأيام، تقدّم عبد المحسن بلُغةٍ ريفية متلعثمة طالباً لقاءها، لكن جبنه أثار سُخطها. اختفت عنه أسبوعاً كاملاً، تاركة إياه على حافة الجنون. وعندما عادت، دسّت في يده ورقةً كتبتْها بحبرٍ ممزوج بالدموع: أنت أسير مخاوف واهية.. لا أحب الرجل الجبان، بل من يخاطر بعفَّةٍ ووقار!”. كانت تلك الرسالة الشهيرة التي حوَّلته من خجولٍ مرتبك إلى عاشقٍ مقدام، استطاع كسب قلبها وعائلتها اليونانية الأنيقة.

لكن شمس الحب التي أشرقت في بورتسودان سرعان ما غربت خلف سحابة سوداء. حين وصل خبره إلى والده في الخرطوم، حلّ كالصاعقة. ركب الأب البصات مسابقاً الزمن، متجهاً شمالاً، وفي يده غضبٌ مقدس. اقتحم مكان عمل ابنه مُصدراً فتواه: والله لن تراها ما دمتُ حياً! الزواج من نصرانية حرام!”.

رُحِّل عبد المحسن قسراً من بورتسودان، لكنه استطاع إرسال رسالة يائسة عبر صديق، وُضعت بجانب باب منزلها. لكن رياحاً عاتية خطفت الورقةَ من يد جورجيت، جرت الفتاة العاشقة خلفها كمن يجري خلف شبح، وظلت تبحث عن تلك الرسالة ما بقي من عمرها حتى صارت عليلةً.

تحوّلت جورجيت من فراشةٍ متألقة إلى ظلٍّ شارد. ثيابٌ رثّة، وعينان شاحبتان تبحثان في المزابل عن أوراقٍ قد تحمل حرفاً من حبيبها. أصبحت جزءاً من ذاكرة المدينة، يراها الناس في السوق المركزي توزع الصدقات على من هم أفقر منها، بينما تُنهكها الشمسُ وهي تترقب رسائل تحملها الرياح. وتجمع في غرفتها تلك الأوراق الشاردة، كانت غرفتها مليئة بالرسائل التي ليست لها، وظلت تبحث عن رسالتها.!

حتى جاء اليوم الذي عاد فيه عبد المحسن بعد موت والده، ليجد شبح فتاة لم تتعرف عليه. بكى كطفلٍ أمام امرأة لم تعرفه، ثم رحل تاركاً خلفه أسطورةً تُروى في مقاهي سواكن وديم جابر: حكاية حب دُفنت تحت رمال التقاليد البالية، ورسالةٌ طائرَة صارت رمزاً للوفاء الأعمى.

وماتت جورجيت عام 1994 بضربة شمس، عندما فتحوا غرفتها وجدوا الألاف من الأوراق، والرسائل التي لم يكن من بينها الرسالة التي تنتظرها.

لكن روحها ما زالت تجوب شوارع بورتسودان كشاهدٍ على أن الحب الحقيقي لا يموت، بل تتحول إلى أسطورة تذوب فيها الحدود بين المجنون والعاشق، بين الواقع والخيال. بينما بقي عبد المحسن يُحاكي أشباح الماضي، حتى قيل إنه فقد عقله هو الآخر، مُعلّقاً بين سماء الحب وأرض الواقع، كسفينةٍ شراعية علقت في شعاب مرجانية، لا هي قادرة على الإبحار ولا على الغرق.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *