وعقب دخول كتيبة النهر لمنطقة عطبرة انطلقت الفرقة العاشرة السودانية برفقة فرقة رويال لينكولنشاير، حيث تبادلت الفرقتان رسائل تهنئة، واحتفل الجنود بترحيب حميم في قرية دارمالي؛ إذ استُقبلت الفرقة البريطانية بتهاني وكؤوس شاي وهتافات “أنت يا فرقة العاشرة الإنجليزية، نحن الفرقة العاشرة السودانية.” كما أظهرت مراسلات أخرى أن البريطانيين كانوا يمدون السودانيين بالتهاني والمؤن؛ إذ جاء تقرير من “ديلي جرافيك” يفيد بأن اللواء تظاهر عند الساعة 4:45 صباحاً، واصطفّت ثلاث فرق سودانية أثناء مرور الجنود البريطانيين، في مشهد مفعم بالحماس والود.
الكاميرون هايلاندرز والفرقة التاسعة السودانية 1886م
هذه الروح الودية والتنافسية بين الجنود السودانيين والبريطانيين لم تكن حديثة العهد؛ فقد سبق ذلك مع الفرقة السودانية التاسعة في أوائل عام 1886. بعد معركة جينيس في 30 ديسمبر 1885، قاتل 79 من كاميرون هايلاندرز جنبًا إلى جنب مع 150 جنديًا من الفرقة السودانية التاسعة، وقدّم الكاميرون للفرقة السودانية لونًا كتعبير عن التقدير والصدقة، وطُلب منهم اعتبار أنفسهم الفرقة الثانية لكاميرون هايلاندرز. وبعد اثني عشر عامًا، عقب معركة عطبرة في 8 أبريل 1898، قدّم الكاميرون هايلاندرز مرة أخرى لونًا للفرقة السودانية التاسعة.
رويال لينكولنشاير والفرقة العاشرة السودانية 1897م
كما أصبحت الفرقة السودانية العاشرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفرقة بريطانية أخرى خدمت في حملة النيل، وهي فرقة رويال لينكولنشاير (المعروفة سابقًا بالفرقة العاشرة). وحتى قبل وصولهم إلى السودان، تبادلت فرقة لينكولنشاير والفرقة السودانية العاشرة رسائل تهنئة عقب معركة أبو حمد في 7 أغسطس 1897 – الأولى من جانب لينكولنشاير والثانية كرد فعل على “إخوانهم في السلاح” من السودانيين: “نحن مقتنعون بأن فرقة العاشرة، البريطانية والسودانية، جاهزة الآن ودائمًا لأداء واجبها كجنود شجعان.”
استمرت روح الود هذه بين القوات البريطانية والسودانية طوال حملة النيل، متجاوزة حدود المراسلات الرسمية لتشمل الجنود أنفسهم. ففي مارس من العام التالي، حين وصلت فرقة رويال لينكولنشاير إلى قرية دارمالي، استقبلتها الفرقة السودانية العاشرة بتهاني حارة وكؤوس شاي وهتافات:
“أنت، يا فرقة العاشرة الإنجليزية؛ نحن الفرقة العاشرة السودانية.”
أما فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنود السودانيين والمصريين في حملة النيل، فإن المصادر تُظهر تفاصيل قليلة لكنها تشير إلى أن تلك العلاقات كانت تتسم بالمودة والتنافس في آنٍ واحد؛ فهناك روايات تُفيد بأنهم كانوا يتفاعلون بانتظام ويعيشون معًا بسلام، كما كتب مراسل صحيفة “التايمز” إرنست ن. نايت:
“كان من اللطيف ملاحظة كيف تآلف رجال من أعراق مختلفة، لا يشتركون سوى في دينهم، دون أن تظهر بينهم أي حسد، بينما كان ضباطهم – المصريون والسود والقبائل العربية – يظهرون كأصدقاء مخلصين.”
ومن ناحية أخرى، أفاد السيد ف. ر. وينغيت في مذكراته عام 1896 بأن “لا توجد علاقة أخوية خاصة بين العرقين؛ فكل كتيبة تميل إلى البقاء منفصلة، لكن المعارك الأخيرة التي خاضها المصريون والسود جنبًا إلى جنب أدت إلى زيادة الود والصداقة بينهما.”
كانت العلاقات بين الجنود السودانيين والمصريين تتسم أحيانًا بالتنافس؛ فقد وصف السيد إرنست نايت أن الفرقة السودانية الثالثة عشرة، عازمة على تحطيم رقم مسيرة سجّلته الفرقة المصرية الخامسة عشر، قطعت مسافة 120 ميلًا من “موراتو كوروسكو” في 64 ساعة، ما استلزم مشيًا لمدة 18 ساعة يوميًا عبر الصحراء وفي أقسى فترات الحر.

أما بالنسبة للعلاقات بين الجنود السودانيين والبريطانيين، فقد اتسمت بالمنافسة العسكرية، خاصةً في أوقات المعارك الحامية أو عندما كان الحديث يدور حول استحقاقات النصر؛ ففي حادثة بارزة عقب معركة أم درمان، بدا أن إحدى الكتائب السودانية أظهرت انزعاجها من أن يُسبقها البريطانيون بإطلاق النار فوق رؤوسهم، فتدخل كيتشنر شخصيًا، قادمًا مسرعًا مع عازف بوق يؤدي نغمة “وقف النار.” ومع ذلك، كانت الفرقة السودانية الثالثة عشرة هي التي فازت بالسباق نحو القلعة وضريح المهدي، متجاوزة الجنراليين بتنقّلها عبر متاهة من الشوارع الجانبية.
الموسيقى العسكرية لغة تواصل
يجب ألا نغفل أن العلاقات بين الجنود السودانيين والمصريين والبريطانيين كانت تخضع لمتاعب عدة؛ فقد كانت الاختلافات العرقية والدينية واللغوية تحدّ من تحقيق الأخوة الحقيقية. إذ لم يكن السودانيون يجيدون الإنجليزية، ولم يكن البريطانيون يتقنون العربية، وكان التواصل الحقيقي بين “الإخوة” عالقًا خلف هذه الحواجز. ومع ذلك، لعبت الموسيقى دورًا حاسمًا في تجاوز تلك الفجوات، إذ أصبحت الفرق الموسيقية للكتائب السودانية جسرًا للتواصل والتآزر، وكانت تعزف الألحان الخديوية والإنجليزية جنبًا إلى جنب مع الأغاني البريطانية التقليدية، وأحيانًا الأغاني الويلزية والأغاني الأمريكية الشعبية، مما ساهم في كسر الحواجز الثقافية واللغوية بين الجنود.
لقد ساهم هذا المزيج من الود والتنافس في خلق روح من التعاون العسكري خلال حملة النيل، حتى وإن كان هذا التعاون متأثرًا بتصنيفات “الأعراق العسكرية” التي استخدمها البريطانيون لتبرير تحيزاتهم. وفي هذا السياق، يقول لورد كرومر:
“على الرغم من أداء القوات المصرية الجيد، إلا أنه لم يُختبروا بعد في مواجهة هجوم درويشي حقيقي.”
إن كل هذه الملاحظات، رغم أنها تبدو متناقضة، لم تكن متعارضة تمامًا؛ فقد كان معظم الضباط البريطانيين والجنود ومراسلو الحرب يرون السودانيين كـ”الآخر الغريب” الأقل شأنًا في تسلسل الأعراق، ومع ذلك كانوا يُقرّون أيضًا بأنهم يجسدون الصفات العسكرية المثالية مثل الشجاعة والإقدام، وهو ما أعطى لهذه العلاقة بعدًا مزدوجًا من الود والتنافس.
كما قال ج. و. ستيفنز:
“أليس من الجيد، سيداتي سادتي، وأن تدركوا وأنتم تسيرون في بيكاديلي أو على طريق مايل إند، أن كل واحد من هؤلاء ‘الزنوج’ يؤمن حقًا بأن أن يكون إنجليزيًا ومعرفة الخوف هما شيئان لا يجتمعان معًا؟ فهم بلا خوف على الإطلاق، وحيث تربوا على الاعتقاد بأن الموت في المعركة هو المصير الطبيعي للإنسان، وهو أفضل بكثير من الهزيمة أو العار؛ لقد عاشوا مع ضباط وإنجليز ورقباء إنجليز طوال سنوات الحرب والأوبئة، ولم يروا أي دليل على أنهم لا يعتزون بالموت كما يعتزون به هم.”
روح الود والتنافس الأنجلو–سوداني
على الرغم من النظرة الإمبريالية السائدة، تُظهر المصادر أن هناك درجة كبيرة من الود والتقدير المتبادل بين الجنود السودانيين والبريطانيين خلال حملة النيل، مع قليل من الاستثناءات، خاصةً عقب الإنجازات العسكرية. كتب مراسل “ديلي تلغراف” بينيت بورلي:
“أما بالنسبة للقوات السودانية والمصرية المتمركزة في بربر، فقد حضروا بأعداد كبيرة ورحبوا باللواء بإخلاص بالغ… تجمعوا بمحض إرادتهم، صفّوا الطريق، وهتفوا وقدّموا الأسلحة مع مرور كل كتبية بريطانية… وفي يوم المصافحة الذي تعرف فيه الجنود البريطانيون والسودانيون على بعضهم البعض في بربر، كان هناك حماس كافٍ لتشغيل آلات النسج في لانكولنشاير لمدة 24 ساعة. يا لسوادهم الباسل، من الدنكا والشيلوك، أمسكوا بأيدي ضباط كاميرون، لينكولنز ووارويكشاير وضغطوا عليها بحماسة شديدة، مُطلقين تهاني بالإنجليزية والعربية. هتفوا وبتهيج، مُهللين لملكة إنجلترا، ثم لضباطها.”
قد يبدو هذا الوصف دعاية إمبريالية، لكنه مدعّم بمصادر أخرى، ويمثل إحدى الحالات الموثقة للود بين القوات البريطانية والسودانية. فقد وصف السيد جورج سكينر، رقيب في فيلق الطاقم الطبي، نفس المشهد في يومياته قائلاً:
“غادرنا بربر القديم الساعة 4:30 صباحًا يوم الجمعة 4/3/98، ومررنا بربر حوالي الساعة 6:30. هنا، اصطفّت جميع القوات المصرية والسودانية على الشوارع لتقديم ترحيب حار، كان حقًا يستحق المدح؛ فقد أصبح الجنود في حالة هستيرية أثناء مرورنا، وكان السودانيون يظهرون فرحهم بالإنجليز بتقديم الشاي الساخن الذي أعدوه خصيصًا لنا.”
كما ذكر اللواء الرائد رونالد فوربس ميكلجون من فوج رويال وارويكشاير في يومياته:
“بدأنا عند الساعة 3 صباحًا وسرنا عبر بربر. كنا نرتدي رقعًا حمراء على خوذتنا الكاكيّة، وكان الجنود السودانيون في الفرقة الحادية عشر يرتدون نفس الشيء على ‘الطرابيش.’ يُنسبون إلينا كفوج ‘شقيق.’ وقد اصطفّ كل السكان المحليين والقوات المصرية والسودانية على الشوارع، وهم يهتفون ويزأرون أثناء مرورنا. كنا متعبين بعض الشيء، مهترئين ومغبرين. وقد رافقنا الفرقة السودانية الحادية عشر في مسيرة بربر إلى المسيرة النظامية الخاصة بهم… لقد حصلنا على لقب ‘السودانيون المقاتلون’.”
وهكذا، وعلى الرغم من أن هذه العلاقات تبدو ودية بين البريطانيين والسودانيين، فإنها لم تكن خالية من الفوارق الثقافية واللغوية؛ إذ أن الاختلاف بين اللغتين الإنجليزية والعربية شكل حاجزًا دائمًا. فمع استثناءات قليلة، لم يكن السودانيون يتحدثون الإنجليزية، ولم يكن لدى الجنود البريطانيين القدرة على التحدث بالعربية؛ بينما كان الضباط البريطانيون في الجيش المصري يدرسون العربية العامية ويتقنون الفرنسية ويعرفون الأوامر التركية، إلا أن الجنود في الفرق البريطانية، مثل وارويك، لينكولن، كاميرون، جرينادييرز، لم يكن لديهم إتقان يُذكر للغة العربية. وبالمثل، كان معظم جنود الجيش المصري، وخاصة السودانيون الذين قضوا حياتهم في صعيد مصر والسودان، لا يعرفون الإنجليزية.
مع ذلك، تجاوزت الموسيقى تلك الفجوة اللغوية والثقافية، وكانت مصدرًا رئيسيًا للتآزر بين البريطانيين والسودانيين؛ فقد أدت الفرق الموسيقية للكتائب السودانية دورًا حيويًا في كسر الحواجز، إذ كانت تُعزف ألحان المسيرات الخديوية والإنجليزية جنبًا إلى جنب مع المسيرات الفرقيّة البريطانية والأغاني الويلزية والأمريكية الشعبية. وقد ساهم ذلك في تمهيد الطريق لتآزر الأخوة الذي جمع هؤلاء “الإخوة في السلاح” خلال الشهور التالية.
على الرغم من كل هذه الاختلافات والتناقضات، فقد نجد أن البريطانيين، سواء كانوا ضباطًا أو عسكريين عاديين أو مراسلين، كانوا ينظرون إلى الجنود السودانيين على أنهم “الآخر الغريب” الأقل شأناً في التسلسل الهرمي للأعراق، ومع ذلك كانوا يُقرّون أيضًا بأنهم يجسدون الصفات العسكرية المثالية مثل الشجاعة والإقدام؛ مما أكسب هؤلاء الجنود السودانيين مكانة خاصة وأعطى لهؤلاء البريطانيين سببًا للفخر والاعتماد عليهم.
كما كتب ألفريد ميلنر في “إنجلترا في مصر” عام 1892:
“إن الأمر اللافت هو نوع الأخوة الطبيعية التي تنشأ بسرعة بين السود والإنجليز؛ فالسود ينجذبون بسهولة إلى ضباطهم البريطانيين، والضباط بدورهم يكنون ولعًا غريبًا تجاه السود، وهو شعور لا يُلاحظ تجاه المصريين الأصليين. وقد امتد هذا الشعور ليشمل حتى جنودنا الإنجليز؛ والأمر العجيب أن السود يتعاملون مع الإنجليز بشكل أفضل مما يفعلون مع المصريين، الذين قد يُفترض أن لهم الكثير من القواسم المشتركة.”
وبهذا، أصبحت فكرة “الأخوة التي تجمع الشجعان” واقعًا معقدًا، مليئًا بالتنافس والود في آن واحد، ومُشكَّلة من خلال خطاب “الأعراق العسكرية” الذي كان يُستخدم لتبرير تحيزات البريطانيين.
ختامًا، نجد أن هذه المواقف المتناقضة والتصورات المتبادلة كانت تتعايش في داخل نفس الفرد، بل وحتى في إطار فكرة واحدة. وكأننا نسمع كلمات السيد ج. و. ستيفنز بعد قوله “مثل الإنجليز… لا يعرفون الخوف”:
“أليس من الرائع، سيداتي وسادتي، وأن تعلموا أثناء سيركم في بيكاديلي أو على طريق مايل إند، أن كل واحد من هؤلاء ‘الزنوج’ يؤمن حقًا بأن أن يكون إنجليزيًا ومعرفة الخوف لا يجتمعان؟ فهم بلا خوف على الإطلاق، وهم وحوش تربوا على فكرة أن الموت في المعركة هو المصير الطبيعي للإنسان، وهو أفضل بكثير من الهزيمة أو العار؛ لقد عاشوا مع ضباط وإنجليز ورقباء إنجليز لسنوات الحرب والأوبئة، ولم يروا أي دليل على أنهم لا يقدسون الموت كما يقدسون أنفسهم.”
تشبه هذه الروابط والعلائق الحالية لأفراد الجيش السوداني – حيث يصبح مصطلح يا دفعة يعني أكثر من زميل في العمل بل الى رابطة دم – يكون فيها الدفاع بالنفس والسلاح.
المصادر:
(Slaves of Fortune – Sudanese Soldiers& the River War (1896–1898
RONALD M. LAMOTHE

اترك تعليقاً