مقال مترجم عن: Chapter 7 – The Sudanese Soldiers Who Went to Mexico
(1863–1867): A Global History from the Nile Valley to North America
للكاتب: Heather J. Sharkey
ترجمة : أيمن هاشم
عندما وصل السودانيون إلى فيراكروز أوائل عام 1863، كان رجال آخرون من أصول أفريقية – من مارتينيك وجوادلوب في الكاريبي، ومن السنغال والجزائر في أفريقيا – يخوضون القتال بالفعل ضمن القوات الفرنسية في المكسيك. لكن السودانيين، الذين جاؤوا من مناطق متنوعة مثل جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب دارفور، تميزوا – وفقًا للروايات – ببشرة أغمق. فرانسيسكو دي باولا تورونكوسو (1839–1919)، الأسير المكسيكي بالقرب من فيراكروز، وصفهم ليسوا “سودًا” فحسب، بل “سودًا بشكلٍ مُفرط”، خاصة عند مقارنتهم بالقماش الأبيض اللامع لزيّهم العسكري المصري الذي حافظوا عليه (هيل وهوج 1995: 43–45). لون بشرتهم زاد من قيمتهم لدى الفرنسيين، الذين فسروا “سوادهم” كعلامة على القوة في مواجهة الأمراض.
أثار الجنود السودانيون فضول الطبيب العسكري الفرنسي فوزييه، الذي أعد سجلات دقيقة سجل فيها أسماء الرجال مع تفاصيل عن أجسادهم كالطول والوزن، مما يشير إلى أن الكثيرين كانوا طوال القامة ونحيلين. دوّن كل جروحهم في المكسيك، وتفاصيل مكان وزمان الإصابة، والعلاج المقدم، والنتائج (كالشفاء أو البتر أو الوفاة). في أحد الملفات، سجل إصابات ووفيات معركة واحدة، مسجلاً أسماء السودانيين إلى جانب جنود آخرين من قوات التحالف الإمبراطوري – بما فيهم الرماة الجزائريون والسنغاليون والمكسيكيون المنتمون للأصول الإسبانية – والمقاومين الجمهوريين المكسيكيين الأسرى.¹⁵ لكن ملفاته لا تحتوي على سجلات مفصلة بالمثل للجنود الجزائريين أو المكسيكيين. تتبع كل الأمراض التي عانى منها السودانيون، من الإكزيما والتهاب الملتحمة إلى الزهري، بل وحتى نظمهم الغذائية. مقارنة بالجنود الفرنسيين، تلقى السودانيون أرزًا إضافيًا مع زيت وخل بدلًا من النبيذ والبراندي.¹⁶ خلال رمضان، مُنحوا حصصًا من الأرز ومرق اللحم والزبدة والقهوة.
تشير هذه الملاحظات إلى محاولة الفرنسيين احترام هوية السودانيين المسلمة عبر استبدال الكحول بأطعمة إضافية. ملاحظات فوزييه عن السعال والحمى والإسهال التي عانى منها الجنود تشير إلى تكرار هذه الأعراض، خاصة في عامهم الأول بالمكسيك، لكنه نادرًا ما شخّص “الحمى الصفراء” بينهم. عوضًا عن ذلك، نسب وفياتهم عادةً إلى التيفوس والديزنطاريا، رغم ملاحظة رئيس البعثة العلمية الفرنسية أن الحمى الصفراء تتخذ أحيانًا أشكالًا مشابهة للتيفود.¹⁷ في كثير من الحالات، يصعب التمييز بينها وبين أمراض أخرى بسبب تشابه أعراضها (آلام العضلات، الحمى، الصداع)، ولا تُكتشف إلا عند ظهور علامات حاسمة كالقيء الدموي الأسود أو النزف من الأنف والأذن – وهي مرحلة تكون فيها المرضى عادةً على وشك الموت (ماكنيل 2010: 33). بينما شُخّصت الحمى الصفراء في حالة الرائد جبرات الله محمد (قائد الكتيبة الذي وصل مع الجنود من الإسكندرية) عند وفاته في فيراكروز عام 1863، إلا أنه – وفقًا لهيل وهوج – لم يكن سودانيًا بل “أبيض البشرة”، ربما من أصول سورية (هيل وهوج 1995: 21). خليفته، المساعد محمد الماس (سوداني الأصل)، أعرب عن شكوكه للفرنسيين حول مناعة السودانيين المزعومة، لكنه فشل في زعزعة قناعاتهم، رغم إصابة 71 جنديًا من كتيبته (من أصل 446) بالحمى ووفاة 64 منهم.
تشير دراسة حديثة لماريولا إسبينوزا (مؤرخة الطب) إلى أن المناعة الجزئية للحمى الصفراء تكتسب عند التعرض لها في الطفولة في المناطق الموبوءة، لكنها تضعف بمرور الوقت. قد يفسر هذا – لو ظهرت أعراض مشابهة على السودانيين – إصابتهم سابقًا بالمرض في وادي النيل، مما خفف حدته مقارنة بالفرنسيين الذين واجهوه لأول مرة. كما يُحتمل تمسك أطباء كفوزييه بنظرية “المناعة السوداء” رغم ظهور الأعراض على الجنود، متجاهلين تشخيص الحمى الصفراء، كما حدث في تفشي فيلادلفيا 1793.

أسطورة المناعة التي دامت قرنًا
تبنى المؤرخون ادعاءات المناعة الفرنسية لأكثر من قرن. فالأمير المصري عمر طوسون (1933) – أول مؤرخ يسجل قصتهم – أقر بارتفاع الوفيات لكنه زعم تفوق السودانيين الصحي على الفرنسيين، مرددًا أن سوء التغذية (وليس المرض) أضعفهم.¹⁷ تبني هيل وهوج هذا الادعاء باقتراح نقص النياسين بسبب الاعتماد على الذرة المكسيكية بدلًا من الدخن الأفريقي (هيل وهوج 1995: 29). حتى الباحثان الأمريكيان دانيال وكريسيليوس (1976) قبلا الادعاءات الفرنسية، وكتبا: “أثبتت القوات النيلية… مقاومة مذهلة للأمراض المستوطنة التي حصدت الأوروبيين… لم تُسجل بينهم أي حالة حمى صفراء أثناء تفشي 1863 الذي قضى على نصف القوات الفرنسية في فيراكروز!” (كريسيليوس 1976: 77). بل زعما – في مبالغة – أنهم تفوقوا حتى على المكسيكيين في المناعة، ربما مشيرين إلى الكوليرا التي انتشرت آنذاك (انظر أيضًا هيل وهوج 1995: 32). في 1995، قدّم هيل وهوج الادعاء كحقيقة: “جُلِب السودانيون للمكسيك بسبب مقاومتهم المتوقعة (والمؤكدة لاحقًا) للحمى الصفراء” (هيل وهوج 1995: x–xi).
تفنيد الأسطورة:
تناقض هذه الادعاءات الوقائع التاريخية عن الصحة في السودان. فمنذ عشرينيات القرن التاسع عشر، لاحظت السلطات المصرية ارتفاع وفيات السودانيين المجندين (نصفهم تقريبًا) بسبب أمراض كالحمى الصفراء والطاعون والملاريا أثناء مسيراتهم القسرية إلى مصر . ظلت الحمى الصفراء (كمرض ينقله البعوض) مصدر قلق في السودان مع مطلع القرن العشرين تحت الحكم البريطاني.
رجال حقيقيون، لا أسود أو تماسيح:
أفادت السجلات الفرنسية بمعاناة الجنود السودانيين من “حنينٍ جامح للوطن” طوال فترة وجودهم في المكسيك (كريسيليوس 1976: 80، 85). تفاقم هذا الشعور بعد إبحارهم ستة أسابيع على سفينة مزدحمة – وهي تجربة صادمة لمن رآوا البحر لأول مرة. في 1864، قدموا التماسًا للعودة إلى مصر، لكن الفرنسيين تجاهلوه معتبرين شكواهم دليلًا على جهلهم بالنظام العسكري، ورافضين إطلاق سراحهم إلا باستبدالهم بـ”زنوج آخرين” .
واجه الجنود صعوبات لغوية مع الفرنسية والإسبانية، وحتى مع الجزائريين الذين فشلوا في فهم لهجاتهم العربية المتباينة. فالكثير من الجزائريين كانوا أمازيغًا يتحدثون اللهجة العربية الجزائرية، بينما كان السودانيون – المنحدرون من قبائل الدينكا والنوير والنوبة – حديثي التعلم للعربية كلغة عسكرية مشتركة، تطورت لاحقًا إلى ما يُعرف بـ”لهجة جوبا العربية” نسبة لمدينة جوبا (عاصمة جنوب السودان الحالية).
رغم ذلك، أدى السودانيون مهام حيوية: حراسة الطرق والسكك الحديدية بين فيراكروز ومكسيكو سيتي، وحماية شخصيات كالإمبراطورة كارلوتا وممثل الفاتيكان. لكن نطاق عملهم الجغرافي الضيق (30 كم كحد أقصى داخل الأراضي) منعهم من رؤية العاصمة، مما يفسر ندرة الإشارات التاريخية لهم. الاستثناء كان الأسير تورونكوسو الذي وصفهم في مذكراته (يونيو 1863): “وصلنا أخيرًا إلى لا تيخيريا، حيث استقبلنا المصريون المتوحشون – 150 أسودًا يُقال إنهم هدية من خديوي مصر لنابليون الثالث… بلا تدريب عسكري، شرسين كتماسيح موطنهم الأصلي!”.
التجسيد الحيواني:
انخرط الفرنسيون في تجريد السودانيين من إنسانيتهم، كما فعل البريطانيون مع “الأعراق العسكرية” كالبنجابيين السيخ والغوركا النيباليين. في رسالة 1864 لوزارة الحربية الفرنسية، وصف القائد الأعلى للقوات الفرنسية معركة للسودانيين: “روحهم لا تسمح بترك أسير حي… شجاعتهم مذهلة، لم يكونوا بشرًا بل أسودًا!”. قد تعكس هذه “الشراسة” حياتهم القاسية قبل المكسيك: استعبادهم، تجنيدهم القسري، وقطع صلاتهم بأهلهم ولغاتهم. النظام التركي-المصري (والأنظمة الاستعمارية اللاحقة) غذى هذه الثقافة العنيفة.
شهادة علي جفون: من “الهمجي” إلى الجندي:
تُجسد قصة علي جفون (الذي روى سيرته للكابتن البريطاني بيرسي ماشيل عام 1896) إنسانيتهم المنسية. وصفه ماشيل في المقدمة بـ”الهمجي العاري”، لكن الرواية تكشف ثقته بنفسه وقيمته الذاتية. وُلد جفون (اسمه الأصلي لوالديت) في فاشودة بالنيل الأبيض (حوالي 1836) بين شعب الشلك غير المسلم، الذي يؤمن بـ”جو-أوك” (الإله الخالق) ويمارس أخلاقيات صارمة (كالزواج الدائم). لكن حياته – كما رواها – اتسمت بالغارات المستمرة بين القبائل.
في الثالثة والعشرين من عمره (متزوج وأب لابنة)، أُسر خلال غارة للبقارة العرب الذين سلموه للحكومة التركية-المصرية كجزء من ضرائبهم العينية. لم يذكر تفاصيل تحوله للإسلام أو تجنيده، لكن سيرته توحي بانتهاء حياته كلوالديت عند الأسر.
خدم جفون لاحقًا في الجيش المصري عبر السودان وإريتريا، وشارك في غارات دموية، كالتي وصفها ضد قبائل النوبة: “صدّوا هجومنا بالرماح والصخور، فمات 75% من جنودنا”. في غارة أخرى، استعبدوا رجالًا ونساءً من النوبة، وباعوا الأطفال في سوق الأوبييد. بعدها، هاجموا البقارة المتمردين، حيث استخدموا خليط البارود والفلفل لطرد المختفين في الكهوف، مما أسفر عن مقتل 300 جندي من أصل 500.
تنطبق رواية علي جفون عن الحقبة التركية-المصرية في منتصف القرن التاسع عشر بالسودان مع ما وصفه المؤرخون من سياسات النظام القائمة على فرض الضرائب الجائرة، الغارات، العمل القسري (عبر استعباد غير المسلمين)، والتجنيد العسكري الإلزامي (سبولدينج 1982: 1–20؛ بيوركيلو 1989). أدت هذه السياسات المكروهة إلى دعم حركة المهدي محمد أحمد في ثمانينيات القرن التاسع عشر، الذي قاد جهادًا أصوليًا وعدَ بإقامة العدل مع اقتراب “يوم الحساب”. بدأت الحركة المهدية كتمرد بسيط، لكنها سرعان ما نظمت جيوشًا وأطاحت بالنظام التركي-المصري في الخرطوم عام 1885 (هولت 1970؛ زولفو 1980). بينما يصنف المؤرخون الحركة كـ”ثورة”، إلا أنها تضمنت أيضًا حربًا أهلية بين المسلمين، مع بعد طائفي قوي، حيث تنافست رؤى حول النظام الإسلامي الأمثل، واصطدم المهديون مع الصوفية الختمية الموالية لمصر (فول 1969).
تلمح شهادة جفون إلى جذور هذا الصراع. فذكر أن ضباط الجيش المصري كانوا “أتراكًا وأكرادًا وشركسًا وألبان”، مما يعكس غربة النظام. كما أشار إلى التنوع الثقافي الهائل بالسودان الذي عقد جهود الحكم: “وجدت بين زملائي سودانيين من كل الأنواع، لكن لا شلكيين مثلي” (ماشيل 1896، الجزء 2: 176). تكشف مذكراته دور الجيش المصري في صياغة هوية سودانية عابرة للإثنيات، قائمة على الإسلام والعربية.
بعد مشاركته في غارات الجيش المصري بالسودان حوالي 1860، أُمرت كتيبته بالتوجه إلى الساحل المصري، حيث جُمع هو و400 رجل آخرين (جنود ومدنيين سود مُختطفين عشوائيًا) وأُركبوا سفينةً إلى المكسيك. إذا كان تقدير ميلاده (حوالي 1836) صحيحًا، فكان عمره 27 عامًا عند ذهابه للمكسيك، وكان مسلمًا منذ 3-4 سنوات فقط.
في مذكراته (46 صفحة عبر 4 مقالات)، خصص جفون 7 صفحات فقط لفترة المكسيك (أقل من 4 سنوات). تصويره للأحداث ضبابي، لكنه يشرح سبب إرسالهم: “فرنسا طالبت المكسيك بديون فرفضت، فاجتمعت دول أوروبا لاستعادتها بالقوة”. أقر بمعاناة الجنود الفرنسيين من الحمى الصفراء، لكنه لاحظ: “عانينا نحن أيضًا في البداية”. وصف مهامهم كحراسة طرق ومحاربة “قطاع الطرق”، مستخدمين تكتيكات مشابهة لغارات السودان.
في أبريل 1863، قتل قناص مكسيكي حارسًا سودانيًا في ميديلين، فانتقم 6 جنود بقتل 8 مدنيين (بمن فيهم نساء وأطفال). حوكموا عسكريًا وحُكِم عليهم بالسجن. رغم هذه الحادثة، أشاد الفرنسيون بأداء السودانيين، حتى أن نابليون الثالث طلب المزيد عام 1865. لكن أوامر التجنيد الجديدة في كسلا (شرق الخرطوم) أشعلت تمردًا: الجنود المُعدمين (الذين “عاشوا على النهب والرشوة” وفقًا لسيكاينجا) سمعوا بإرسالهم للمكسيك فثاروا. قمع الجيش المصري التمرد بوحشية: أُعدم 2000 جندي (غالبيتهم دينكا)، وتعفنت الجثث مسببة أوبئة قتلت حتى القائد الألباني حسن باشا (سيكاينجا 2000: 213؛ هوغ وهولت 1995: 82–84). أخفت السلطات الخبر خوفًا من فقدان الدعم الفرنسي.
من المكسيك إلى السودان: مسارات مهنية متناقضة
عند عودتهم، نال السودانيون أوسمة وترقيات. في باريس، منحهم الفرنسيون وسام “فارس الشرف”، وتظهر صورة في متحف الجيش الفرنسي الجندي عبد الرحمن موسى مرتديًا شارات الوسام. بينما لم ينل جفون الوسام، زعم أن نابليون الثالث منحه ميدالية ذهبية “للشجاعة والانضباط”، وترقى لرتبة شاويش. لكن الفرحة لم تدم: حُلّت الكتيبة، وتشتت أفرادها في ثغور السودان. قضى جفون 4 سنوات في مصوع (إريتريا) يجمع ضرائب الملح. معظم الزملاء غادروا السجلات التاريخية، إلا النذر: مثل الرائد صالح حجازي (شارك في غزو دارفور 1873)، وفرج عزازي (طفلٌ سُلب من جبال النوبة، حصل على وسام الشرف ثم انضم للمهديين).
التشابكات العابرة للحدود
لا تنتهي القصة بالسودانيين وحدهم. ففي السبعينيات، انضم 50 ضابطًا أمريكيًا (قدامى حرب الاتحاد والكونفدرالية) للجيش الخديوي، بعضهم خاض حرب المكسيك-أمريكا (1846–1848) التي ألهمت نابليون الثالث. ومنهم ويليام لورينج (بطل سابق في مكسيكو سيتي)، الذي شارك في غزو إثيوبيا الفاشل. هؤلاء الجنود المُرتزقة، بحسب المؤرخ إريك كوفي، كانوا عنصريين أبيض، استغلوا الفرصة لتعزيز النفوذ الأمريكي على حساب الأوروبيين.
تربط قصة هؤلاء الجنود السودانيين بين سودانَي الشمال والجنوب (المنفصل 2011) عبر تاريخ الاستعباد العسكري. كما تربطهم بفرنسا عبر التدخل المكسيكي، وتاريخ أفكار عنصرية (كـ”مناعة السود”) طبعت تجنيدهم. رغم آمال الفرنسيين باستخدامهم لنشر النفوذ في مصر، فإن هزيمتهم في الحرب البروسية (1870–1871) أحبطت المخطط.
أخيرًا، تشابكت مساراتهم مع البريطانيين خلال الغزو الأنجلو-مصري 1898. فالقائد البريطاني تشارلز غوردون (الذي قُتل في الخرطوم 1885) ساعد قدامى المكسيك في استبدال شرائط أوسمتهم البالية. حتى جفون العجوز، شارك في حادثة فاشودة (1898) – حيث تصارعت القوى الأوروبية على أفريقيا – قبل أن يموت بالعدوى عن 62 عامًا.
كانت حادثة فاشودة مواجهةً بين الجنرال الفرنسي جان بابتيست مارشان (1863–1934) (الذي انطلق قبل عامين من لوأنغو قرب الحدود الحالية بين الغابون وجمهورية الكونغو)، والجنرال البريطاني هربرت كتشنر (1850–1916)، قائد القوات الأنجلو-مصرية التي أطاحت حديثًا بالدولة المهدية. انضم علي جفون – الذي حمل آنذاك أعلى رتبة عسكرية لجندي سوداني في الجيش المصري كـمساعد رئيس (صَاغ قول أغاسي، أو ساغولاغاسي) – إلى الوحدة التي سارت مع كتشنر من الخرطوم صعودًا بالنيل الأبيض لتعطيل المطالبات الفرنسية (لاموث 2011: 1). كان هدفهم فاشودة (كودوك حاليًا في جنوب السودان)، مسقط رأس علي جفون، والتي وصلها مارشان قبل أشهر. بحلول ذلك الوقت، غادر الكابتن البريطاني بيرسي ماشيل (الذي دوّن سيرة علي جفون)، لذا لا نملك رواية جفون عما حدث لاحقًا. لكن في كتابه عن الجنود السودانيين خلال الغزو الأنجلو-مصري، يذكر رون لاموث أن عودة جفون إلى فاشودة بعد 40 عامًا من الخدمة العسكرية في أراضٍ مختلفة كانت واحدة من أبرز العَوْدَات “المستحيلة” و”الخارقة” لجندي سوداني في ذلك العصر (لاموث 2011: 55).
في فاشودة، سعت بريطانيا لتحييد أي اتفاق وقّعه مارشان مع حاكم الشلك – أي شيء قد يهدد ما سمّاه هيل وهوج “إعادة الاحتلال المصري”، أو بالأحرى طموحات بريطانيا الاستعمارية. لعب علي جفون على الأرجح دورًا في الترجمة بين لغة الشلك (لغته الأم) والعربية (التي اكتسبها)، وربما استعان بمعرفته المحدودة بالفرنسية والإنجليزية أيضًا. وفقًا لتقرير استخباراتي بريطاني، شهد علي جفون – مع جندي آخر اسمه علي أحمد – إعلان “ملك” الشلك أنه لم يوقّع أي وعد مع الفرنسيين. انتهت الحادثة باستسلام مارشان لكتشنر، الذي استمر في التمسك بالمطالبات المصرية السابقة بينما كان يدفع بطموحات بريطانيا.
بالنسبة للصلات العابرة للحدود التي ربطت تاريخ السودان بمصر وفرنسا وبريطانيا في ذلك العصر، قد تبدو الروابط بين السودان والولايات المتحدة أقل وضوحًا آنذاك. لكن يجب ألا ننسى أن الحروب الأهلية في المكسيك والولايات المتحدة حرّكت سلسلة الأحداث التي أرسلت الجنود السودانيين إلى المكسيك، ثم جلبت الجنود الأمريكيين لاحقًا إلى السودان عبر الهيكل المشترك للجيش المصري. لابد أن مسارات قدامى السودانيين والمرتزقة الأمريكيين تقاطعت في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر.
على سبيل المثال، تذكر تشارلز شايي-لونغ من ماريلاند (1842–1917) – الذي حارب في صفوف جيش الاتحاد في معركة جيتيسبيرغ الحاسمة (1863) – أنه التقى العديد من الجنود السودانيين في “فاتوكا” (حصن باتيكو الحالي في أوغندا)، الذين كانوا يحبون سرد قصص عن أيامهم في المكسيك. وأشار إلى أن الضابط القائد هناك، المدعو بابا توكا، كان لا يزال يرتدي وسام “فارس الشرف” الفرنسي.
في مخيلة جنوب السودان، يبدو أن أهمية الصلة السودانية-الأمريكية تعاظمت بمرور الوقت، كما يتضح من ما اكتشفه عالم الأنثروبولوجيا بريندان توتل أثناء بحثه في مدينة بور (المعسكر القديم) عام 2010. في مقابلة مع امرأة عجوز من مجتمع النوبي (المنحدر من جنود العبيد)، علم توتل أن “ذاكرة أولئك السودانيين الذين أُخذوا إلى ‘أمريكا’ وعادوا ليرووا الحكاية كانت لا تزال حية في 2009–2010.” استمر سكان بور في الحديث عن أسلافهم الذين خدموا في المكسيك، وربطوها بالهجرة إلى الولايات المتحدة، إلى “أمريكا”. بدت هذه الهجرة ضخمة لدرجة أن أحد سكان بور صرّح عام 2009: “نصف جيل الشباب في جنوب السودان موجودون بالفعل في أمريكا” (توتل 2014: 96، 165).
لم تنتهِ قصة الجنود السودانيين الذين ذهبوا إلى المكسيك عام 1867 عند إخلاء فيراكروز. ولم تنتهِ بعد عودتهم إلى مصر والسودان، رغم اختفاء معظمهم من السجلات المكتوبة. استمرت تجاربهم في إحداث تداعيات أثّرت على تاريخ السودان أواخر القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، كما شكّلت مخيلة أحفادهم العسكريين بطرق لا تزال ظاهرة حتى القرن الحادي والعشرين.
اترك تعليقاً