قبلَ خمسين مليونَ سنةٍ، في العصرِ الإيوسيني، حلقَ الخفاشُ بأجنحةٍ لم تكن تشبهُ تلك التي يحملُها اليوم، كما تُخبرُنا الحفرياتُ في أوروبا وأمريكا. لكنَّ البشرَ لم يروه مجردَ حيوانٍ يُلقِّحُ نباتَ الصبارِ ، بل رأوا فيه كائناً غامضاً يختزنُ قوى خفية. في مصرَ القديمة، نُقِشَ على جدرانِ مقبرةِ بني حسن بالمنيا، كرمزٍ للبعثِ أو الحماية. وقبلَ ذلك، استخرجَ الأطباءُ القدامى من دمائِهِ أدويةً لعلاجِ الأمراض، بينما رأى النبي أشعيا في العهدِ القديم أن الخفاشَ سيرثُ أوثانَ البشرِ الذهبيةَ حين يحينُ زمنُ الدينونة.
أما في الشرقِ، فاتخذَ الخفاشُ وجهاً آخر؛ ففي الصينِ واليابانِ صارَ رمزاً للحظِّ السعيد، حيثُ ترمزُ خمسةُ خفافيشٍ إلى النِّعمِ الخمس: الثروةُ، الصحةُ، العمرُ المديدُ، حبُّ الفضيلةِ، والموتُ الطبيعيُّ. هكذا تحوّلَ الكائنُ الليليُّ إلى حاملِ تناقضاتِ الوجودِ الإنسانيِّ نفسِه.
الخفاش – كاميرا درون للنينجا
في الميثولوجيا اليابانية، يعتبر الخفاش من الطيور الشائعة التي تشكل جزءًا من ثقافة الأساطير اليابانية. وعلى الرغم من أن الخفاش غالباً ما يرمز إلى الظلام والشر، إلا أنه يتم تقديمه في بعض الأحيان على أنه مخلوق جيد.
تقول إحدى الأساطير اليابانية إن الخفاش كان يستخدمه النينجا كوسيلة للتجسس والتصوير، حيث يوجد في المباني ويمكن له الطيران بسرعة كبيرة، ويتمكن من الكشف عن حركة الأعداء. وتوجد قصة أخرى حول خفاش ضحل كان يشعر بالغيرة تجاه طيور الزينة الأخرى، وقرر أن يذهب إلى الطائر الملك لطلب نصيحته. وإثر تحذير الطائر الملك، تراجع الخفاش عن خططه المضاربة وقرر العيش بسلام مع كل من يحيط به.
الجذر اللغوي – يضرب – في أوربا
كلمة “خفاش” BAT مشتق من الكلمة الفرنسية القديمة “battue” والتي تعني “ضرب” أو “رطم”. وذلك لأن الصوت الذي تصدره أجنحة الثعالب الطائرة والميجابات والخفافيش الدقيقة كان يُعتقد خطأً أنه صوت ضرب أو ضرب. تم بعد ذلك اعتماد مصطلح “خفاش” في اللغة الإنجليزية الوسطى وأصبح منذ ذلك الحين المصطلح الشائع الاستخدام لهذه الثدييات الطائرة. في أوربا القديمة – العصور المظلمة – إرتبط وجوده بمعامل السحر للساحرات وأعمال الشعوذة. كما إرتبط بأن الخفافيش تنشر المرض. هذا على الأرجح بسبب تشابه الخفافيش مع الجرذ ، والذي عادة ما يُلقى باللوم عليه في انتشار الطاعون. لأن الكثير من الناس يؤمنون بالسحر خلال هذا الوقت ، كان الخفاش مرتبطًا بالسحرة والسحر الأسود والشعوذة وحتى التحدث إلى الموتى. اشتبه الناس في ريف اسكتلندا وشمال إنجلترا في كون الخفافيش رسلًا بين السحرة والشيطان.
الخفاش يشارك في معركة أخر الزمان
وفي المرويات الاسلامية ورد نهي مباشر عن قتله، أما لماذا ؟ فإنه يشير إلى ما ورد عن حماد عن سلمه قال حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن عمر أنه قال: “لا تقتلوا الخفاش فإنه استأذن في البحر أن يأخذ من مائه فيطفئ نار بيت المقدس إذا أُحرق”!! وقال هشام أيضاً حدثنا زرارة عن عبد الله بن عمر قال: “لا تقتلوا الخفاش فإنه إذ خرب بيت المقدس قال يارب سلطني على البحر حتى أغرقهم ..” كتاب الحيوان الجزء الرابع!
طائر يلد ويحيض
وفي حديث أبي ذر الطويل – قال وهب: وقيل : لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا ، وهي تحيض وتطهر وتلد . ويقال : إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ; ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . ويقال : إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا : اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك ; فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض ; وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله ، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله .
أبو الرقيع: من أجنحته يعود الغائبينَ ويَجلبُ الحبيبَ
في السودان، حيثُ تُحكَى الأساطيرُ بنَفَسٍ دافئٍ، يخرجُ الخفاشُ من عالمِ الظلامِ ليدخلَ قلبَ الطقوسِ السحرية. هناكَ يُدعى أبو الرقيع، ويُحاطُ بهالةٍ من القداسةِ والرهبة. فبحسبِ حكاياتِ الأُمْبَتَّارِي – ساحرِ القبيلةِ – كان الخفاشُ امرأةً جميلةً مسحورةً، حُوِّلتْ إلى هذا الشكلِ كي لا يتزوّجَها أحدٌ بعدَ موتِ زوجِها الساحرِ. ومن دمائِه الجافةِ، يُصنعُ مسحوقٌ سحريٌّ تُختزلُ فيه رغباتُ البشرِ اليائسين العاشقين.
للأُمْبَتَّارِي وصفتُه السرية:
- خفاش العَوِينْ: تُطحنُ أجنحتُهُ لِجلبِ النساءِ، فتَتبعُكِ الحبيبةُ كظلِّها.
- خفاش الجَلْبَة: تُسحقُ أرجلُهُ لِردِّ الغائبينَ، حتى لو عادوا محمولينَ على أعتابِ الموتِ.
- مسحوقُ الأثداء: لِسحرِ القلوبِ، فالحبُّ – هنا – ليس شعوراً، بل تعويذةٌ تُدفنُ تحتَ السريرِ مع ترابِ أثرِ الحبيبةِ وعطرِ “بت السودان”.
في أحدِ أحياءِ الخرطومِ القديمة، يتسللُ صبيةٌ إلى مخازنِ سكةِ الحديدِ بعدَ الحصةِ الخامسةِ، يَصطادون الخفافيشَ الحيةَ لبيعِها للأُمْبَتَّارِي. هكذا تتحولُ الكائناتُ الليليةُ إلى عملةٍ سوداءَ في سوقِ السحرِ. فالمرويات الشفاهية تتداول قصص من قبيل؛
فمستحضر جثة الخفاش أعادَ شقيقاً كان غائباً لعشرِ سنواتٍ، فقط ليموتَ بعدَ عامٍ من عودتِه. !
ولسطوة جثة الخفاش غرائبية – فبداية التسعينات حاول أحد أثرياء الخرطوم وبمعاونة أمبتاري جلبَ الأميرة ديانا لتحبه.. ربما لأن الخفاشَ، في النهاية، لا يُعيدُ الأمواتَ، بل يُحرِّكُ غرام الناس الأحياء.
المصادر
جريدة المواكب. Hadi Ali Radi – عدد اليوم الأربعاء ٢٥مارس ٢٠٢٠. – الملف الثقافي – الخفاشُ.. جَالِبُ النساء والغائبين – نافذة على ميثولوجيا الخفافيش.
رابط المقال على: Hadi Ali Radi – الخفاشُ.. جَالِبُ النساء والغائبين. نافذة على… | Facebook
اترك تعليقاً