
للكاتب: أيمن هاشم
عندما رنّ جرس فسحة الفطور، لم يكن دانيال متأكدًا أنما يسمعه هو صوت رصاص، أمسك الساندويتش، ركض ناحية الفصل، ظهر أستاذ غابريال بملابسه الأنيقة يصيح للأطفال للتجمع والاحتماء بالفصول الداخلية، بمدرسة كمبوني فصل السنة الثالثة، صوت صراخ الأولاد ودوي القنابل، على السبورة مكتوبٌ بخط أنيق تحت تاريخ الخامس عشر من أبريل عنوان مزيل بكلمات غير مرتبة، الرب، السلام وشخبطة..
مضت الساعات الأولى ثقيلة. أمسك أستاذ عبدالله بمسبحته، بينما استلقى الأطفال تحت المقاعد بسبب اقتراب صوت الرصاص من مبنى المدرسة، قاطع الصمت صوت نغمة هاتف، أمسك غابريال وأجاب، جاءه الرد مقتضباً: يبدو أن الحرب قد بدأت، وهناك قوات تحاصر القصر الجمهوري. تسمر الأطفال وسكتوا منصتين لما سيقوله، جاء صوته بعيداً وملئياً بالتردد، رأى طلابه الخوف على وجهه، استغل أستاذ عبدالله فترة الصمت المطبق على المكان، وهو يضع الهاتف المحمول في جيب قميصه العلوي وأخذ يردد:
الأمر لن يكون سوى ساعات، سترجعون إلى بيوتكم.
ترك الأولاد باب الفصل مفتوحاً، دخلت نسمة هواء باردة، حركت المروحة في السقف، استمر دوي الرصاص بالإقتراب من مبنى المدرسة، اخترقت رصاصة شباك الفصل، استلقى الجميع، صرخ أحد الأطفال وأمسك بياقة قميصه يمسح سائل أنفه وصوته يتهدج منادياً للأستاذ:
عربات الجنود دي قريبة من باب المدرسة.
مرّ الوقت بطيئاً قضاه الأولاد وهم راقدون على البلاط البارد تحت الأدراج، مُسندي رؤوسهم على حقائبهم، تسلل أستاذ غابريال من الفصل وجاء حاملاً كيساً موزعاً الكيك المغلف والعصير على الأطفال، إقترب من أستاذ عبدالله هامساً في أذنه :
صوت الانفجار دا كان من إتجاه مستشفى فضيل، أو من جهة القصر الجمهوري، الناس ديل قريبين.
بدأت الشمس بالمغيب، وصوت الاشتباكات يعلو، تسرب اليأس من أمل الخروج في ذات اليوم، وضع الأطفال قمصانهم تحت رأسهم كوسائد والرقود بالملابس الداخلية، فالكهرباء مقطوعة عن المكان، عمت رائحة دخان حريق الأفق، بينما صوت الرصاص المتقطع يختفي ويظهر، تسللت أخر أشعة الشمس تاركةُ لوناً شبحياً على الأدراج وأطفال ملقيين تحتها، يتحدثون همساً وتنقطع كلماتهم حين يدوي صوت الرصاص.
السادس عشر من أبريل، صباح يوم عادي رتيب في مقاطعة وستمينسر بالمملكة المتحدة، خرج عامل النظافة داني مرتدياً اليونيفورم ، بينما غادرت بنته الممرضة البيت، أخبرته بألا يذهب للعمل اليوم فحرارته مرتفعة والبرد قارس، أكمل داني نصف وردية اليوم، ماسحاً العرق من جبينه جالسا تحت تمثال برونزي للسيدة فلورنس نايتنجيل، تذكر آني إبنته وهي تحكي له عن سيدة منحت نفسها لمهنة التمريض، عالجت المصابين في الحرب وقد عرفت بإسم السيدة التي تحمل المصباح، مرت الخاطرة سريعاً في رأسه، لعل آني تواجه يوماً صعباً، فقد مضى شهران يلتقي فيها بإبنته صباحاً فقط، صارت تعمل ورديتين، تأتي منهكة وتلقي بنفسها في السرير، دون أن تخلع جواربها. في الصباح يعد كوب القهوة الكبير وطبق البيض ويتركهما لها، مرات كثيرة يجدها تجلس على الأريكة وبجوارها إيصالات الدفع، يلقي عليها التحية دون أن ترد عليه، أخذ يقول في سره : آني طيبة غير أنها ترهق نفسها لتسدد الفواتير، ثم رفع رأسه ليجد تمثال السيدة حاملة المصباح غير موجود في مكانه، قام من مكانه فجأة فأحس بالدوار بسبب المرض، دار حول نفسه مصوباً نظره بذهول، اختفى تمثال السيدة فلورنس من ساحة ويستمنستر، يا للمسيح.
مضى أكثر من يومين وأطفال مدرسة كمبوني البالغ عددهم 250 طالباً محاصرين، انهالت المكالمات حتى انطفأ هاتف الأستاذ، في فترة الظهيرة حاول غابريال الخروج من فناء المدرسة عبر الباب الخلفي ليستعير طعاماً للأطفال، باءت محاولته بالفشل فالجنود قريبون من المدرسة، أصابته شظية في كتفه؛ بسبب انفجار عربة بجوار المدرسة، دخل الفصل وهو يركض ليختبئ مع الأطفال ويحاول تضميد ذراعه، لف حول الجرح عدة أقمشة لإيقاف النظيف، عاتبه عبدالله على خروجه: هناك ما يكفي من العصير والخبز، يا أستاذ غابو، أظلمت الفصول سريعاً عدا تقطعات لضوء مدافع يخترق عتمة وسكون الليل.
تسبب الجروح السطحية بالحمى، قال عبدالله : إن غابو قد أصابته الكوابيس، فوضعوا له كمادات على رأسه، كان يزيحها ويلتفت ناحية باب الفصل المظلم، لكن بعض التلاميذ قالوا إنهم رأوا سيدة تحمل مصباحاً قد فتحت باب الفصل وبرقة بالغة وضعت الشرائط البيضاء على جرح أستاذ غابو، الذي أقسم لمرات كثيرة إن سيدة بيضاء البشرة هي من نظفت له جرحه وأخرجت الشظية، بينما كان عبدالله وبعض التلاميذ قد جعلوا من حديث السيد غابوا مادة للتندر، فقد أزعجهم نحيبه وهو يهذئ بسبب الكوابيس.
مضت أكثر من سنة بعدما أُخرِج طلاب مدرسة كمبوني من المدرسة، وشفاء أستاذ غابريال، ووصوله لجنوب السودان حيث إنتقل لتدريس مادة الحاسوب للطلاب في جوبا، في معمل الحاسوب وعند تصحيح امتحان مادة المقالات المكتوبة، لفت نظره صورة سيدة تحمل مصباحاً وتشيح ببصرها، ترتدي خماراً أبيض، تذكر أنها تشبه السيدة التي عالجته في مدرسة كمبوني، ثم دلف إلى داخل المواقع الإلكترونية باللغة الإنجليزية، لفت نظره مكتوب في إحدى المدونات أن شرطة منطقة ويستمنستر قد تلقت بلاغاً بسرقة تمثال، وأن عامل نظافة هو من بلغ عن الحادثة ولعدة أيام تأتي بلاغات ليلية من السيدات اللائي يسكُنَّ البناية المطلة على الميدان حيث تمثال السيدة حاملة المصباح يختفي ليلاً ويظهر في الصباح، كُتِب الخبر مزيلاً بتعليق ساخر، يبدو أن أثار نهاية الأسبوع تخفي الآثار المدنية.
* بُنيت هذه القصة على أحداث حقيقية:
حصار مدرسة كمبوني دام عدة أيام منذ بداية الحرب بتاريخ 15 أبريل في السودان 250 طالب حتى تم تحريرهم.
منطقة ويستمنستر في المملكة المتحدة حيث تلقت الشرطة عدة بلاغات عن حركة تماثيل / العذراء ماري في ايرلندا 1985م .
فلورنس نايتنجيل ممرضة عُرفت بنشاطها الإنساني في فترة الحرب وعلاج المصابين
اترك تعليقاً