تختزن الثقافة الشفاهية لقبيلة الدينكا إرثًا زاخرًا بالحكايات الشعبية التي تنتقل عبر الأجيال مشافهة، وتؤدي أدوارًا تعليمية وأخلاقية وترفيهية في آن واحد. من بين هذه الحكايات، تبرز قصة تُعرف في لغة الدينكا بعنوان (muɔ̈n Awan)، أي “مريسة الثعلب”، والتي أحب ترجمتها مجازًا إلى “وليمة الثعلب”. هذه الحكاية تمثل مثالًا غنيًا على توظيف الحيوان في السرد الشعبي لنقد السلوكيات البشرية وكشف طبائعها.
* الحكاية كما تُروى:
تحكي القصة عن ثعلب ماكر يذيع في أرجاء الغابة خبر شفائه من مرض ألمّ به، ويدعو جميع الحيوانات إلى وليمة عامرة بما لذّ وطاب، وفي مقدمة ذلك شراب المريسة (وهو مشروب تقليدي من الحبوب المخمرة، يحضر في مناسبات الفرح والاجتماع). لم يكن الثعلب مريضًا أصلًا، لكن الحيلة كانت ذريعة لجذب الجميع.
بدافع الفضول والطمع، لبّت الحيوانات الدعوة، لكن الثعلب كان حذرًا في ترتيب الدعوات؛ إذ دعا كل حيوان على انفراد، متجنبًا الجمع بين الأعداء الطبيعيين، فهو يعرف تمامًا أن الخروف لن يخطو خطوة إلى مأدبة فيها ذئب، ولا الفأر سيقترب من مكان تجلس فيه قطة ..الخ. وهكذا، جاء كل واحد وهو مطمئن لغياب خصومه، حتى وجدوا أنفسهم مجتمعين جميعًا في حظيرة واحدة مغلقة الباب، بينما يقف الثعلب في الخارج!
مع طول الانتظار والجوع والظلام، بادر الأسد بالسؤال عن الوليمة الموعودة، فأجابه الثعلب ببرود: “لا توجد مريسة ولا طعام، وإنما جمعتكم هنا لتنهون الخصومات المتراكمة بينكم”. فورًا اندلع القتال؛ انقض الذئب على الخروف، وخنقت القطة الفأر، وهاجم الضبع الكلب… فتحولت الحظيرة إلى ساحة فوضى دموية. وفي ذروة الاشتباك، قفزت ضفدعة لتدخل خرطوم الفيل، فأصابه الهياج، حتى حطم الحظيرة على رؤوس الجميع!
وهكذا، حين أسدل الليل ستاره على الغابة، لم يبق في الحظيرة سوى رائحة الغبار ومواضع أقدام مضطربة، كأنها تروي ما جرى دون كلمات. الثعلب، في مكان ما، يضحك ملء فمه، والفيل يلتقط أنفاسه بعد الهياج، وبقية الحيوانات تمضي متفرقة، تحمل في قلوبها مرارة الدرس:
أن الولائم ليست دائمًا للفرح، وأن بعض الدعوات لا تفتح بابًا إلى الطعام، بل إلى الفوضى… وأن الماكر يكسب حين نترك خصوماتنا القديمة تنام بيننا، حتى يجيء من يوقظها في لحظة واحدة
تُظهر هذه الحكاية بنية رمزية معقدة تحمل أكثر من قراءة منها:
▪︎ المكر كسلاح الضعفاء:
الثعلب، رغم ضعف بنيته مقارنة ببقية الحيوانات، يوظف ذكاءه وخداعه لفرض سيطرته وإشعال الفتنة بين الآخرين. هذه صورة نمطية في التراث الإفريقي للحيوانات الماكرة (مثل الأرنب أو السلحفاة في ثقافات أخرى)، التي تنتصر بالحيلة على القوة البدنية.
▪︎ العداوات القديمة كامنة تحت السطح:
الحكاية تشير إلى أن الصراعات بين الكائنات – أو بين البشر – قد تكون مؤجلة أو مغطاة بالمجاملات، لكنّ شرارة بسيطة تكفي لإشعالها مجددًا.
▪︎ الطمع والانسياق وراء الوعود الكاذبة:
قبول الحيوانات الدعوة من دون تحقق أو تدبير، يعكس كيف يدفع الطمع الأفراد أو الجماعات إلى الوقوع في الفخاخ.
▪︎ الطرف الثالث كمثير للصراع:
الثعلب هنا يلعب دور “المحرّض” الذي لا يشارك في القتال مباشرة، لكنه يستفيد من الفوضى التي يثيرها.
من منظور الأنثروبولوجيا الأدبية، تتبع هذه الحكاية في بنيتها السردية أسلوب “الحيلة والمكيدة” الذي نجده في حكايات الشعوب الرعوية والزراعية على السواء، حيث تعكس شخصيات الحيوانات أدوارًا اجتماعية محددة، غالبًا ما تكون إسقاطًا على العلاقات البشرية في المجتمع. كذلك، تُلاحظ عناصر البناء التقليدي للحكاية. إفتتاحية، عقدة، ذروة، حل.
ان “وليمة الثعلب” ليست مجرد قصة، بل هي مرآة تعكس فهم شعب الدينكا للعلاقات الاجتماعية، ولطبيعة النزاعات الكامنة بين الأفراد أو الجماعات، ولخطورة من يستثمر في هذه النزاعات لمصلحته الخاصة. وبهذا، تظل الحكاية جزءًا من التراث الحي الذي ينقل الحكمة في ثوب سردي بسيط، لكنه عميق المعنى.
اترك تعليقاً