ود أمبعلو: كيف تحوّل طفلٌ مُهمل إلى كابوسٍ جماعي ؟

·

·

,

في دهاليز الفلكلور السوداني، تطلُّ أسطورة “ود أم بعلو” كشبحٍ يختزل الرعبَ والتحذير، فيُقال في حالة تهديد شخص: والله أكلم ليك ود أمبعلو، لكن جذورها تمتد إلى حكاية إنسانية مركبة، تجسد صراعَ القوة والضعف بين ثنايا التاريخ. تحكي المرويات الشفاهية عن أن الرجل الذي تحوّل إلى أسطورة بين عامي 1839 و1902 وُلد في منطقة “الزيداب العالياب” النائية شمال السودان، وحمل اسم “بعلّو” كنُكتةٍ أمومية على تلعثمه في النطق حتى سن الخامسة. لكنَّ اللقب التصق بأمه لتصير “أم بعلّو”، وتُنسى هويتها الحقيقية كليّاً.

لم تكن أم بعلو امرأةً عادية، بل ملكةً حديديةً حكمت عشيرتها بقبضةٍ لا ترحم. اشتهرت بهوسها بترويض الرجال الأقوياء، فما أن تسمع بفارسٍ عظيم حتى تشن عليه حرباً لتستولي عليه. وكانت عقوبتها لمن يُقبض عليه خائناً قاسيةً بلا هوادة: قتله إن تكررَت خيانته، أو إخصاءه إن كان زوجاً لها. هكذا فعلت بوالد ابنها الوحيد، حيث اكتفت بقطع “ذكورته”، لكنها لم تدرك أن هذه الخطوة ستكون شرارة نهايتها. فذات ليلة، انقلب الرجل المخصي عليها انتقاماً من كرامته المهدورة، اغتالها غدراً ثم انتحر، تاركاً الابن “ود أم بعلو” يتيماً في عالمٍ قاسٍ.

تحوَّل الابن إلى كائنٍ منبوذ، فالناس تنفست الصعداء بعد موت أمه الطاغية، لكنهم حوّلوه إلى شبحٍ يجوب الليل وينتظر ساعة الثأر. قيل إنه شرع في قتل أطفال العشائر انتقاماً من طفولةٍ سلبت منه، فانتشر الرعب حتى اجتمعت القبائل وأحرقت منطقته وحاصرتها أياماً. اختفى جسده، لكن أسطورته بقيت حية: هل هرب؟ أم تحوّل إلى كائنٍ خارق؟ الإجابات ضاعت في متاهة الأقاويل، بينما ظلَّت العشائر تترقب عودته حتى اليوم.

من هنا، انبثقت شخصية “ود أمبعلو” الخرافية ككائنٍ شيطاني في الثقافة الشعبية. تحوّل اسمه إلى أداة ترهيب للأطفال: “لو لم تغسل وجهك بعد الأكل، سيأتي ود أمبعلو يلعقك!”، وبات بطلاً شريراً في أحاجي مثل “فاطنة السمحة”. لكن الغريب أن جذور الاسم تعود إلى ما هو أبعد من السودان. ففي قبيلة الدوغون بمنطقة “باندياغارا” في مالي، يُعتقد أن كائناً روحياً اسمه “أدمبولو” يسكن الغابات مع جماعته من الجن. يرجح الباحثون أن الهجرات الأفريقية القديمة – خاصة طريق الحج من غرب أفريقيا إلى شرقها – نقلت هذه العقيدة مع تبادل الثقافات، ليتشكل الاسم السوداني “ود أمبعلو” من تحريف “أدمبولو” المالي.

هذا التشابك الثقافي لا يقف عند الأساطير، فقبائل الدوغون تشترك مع السودانيين في ممارساتٍ مثل ختان الإناث، الذي يرونه طقساً لتطهير الروح، مستندين إلى أسطورةٍ تزعم أن الإله الأكبر هو من قام بأول ختانٍ لأنثى. كما يؤمنون بتقديم القرابين الحيوانية للشفاء من الأمراض، ويمارسون طقوساً دمويةً كتلطيخ الأيدي بدماء الذبائح. ورغم اعتناق معظمهم الإسلام منذ القرن الحادي عشر، إلا أن عقائدهم لا تزال مزيجاً من التوحيد الإسلامي وعبادة الأسلاف والطوطمية، مما يقربهم من المعتقدات الروحية في السودان وجنوبه.

هكذا تختلط الدماء بالتاريخ، والأساطير بالهجرات، لتصنع من “ود أمبعلو” رمزاً فلكلورياً يتنفس عبر الحدود، يحمل في ثناياه أصداء ثقافاتٍ متشابكة، وصراعاتٍ إنسانيةٍ لم تمت.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *