تُشير المصادر التاريخية والأسطورية إلى أن قوم عاد – المنحدرين من نسل عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح – كانوا أوائل مَن عبَّدوا القمر في الجزيرة العربية، وفقًا لنصوص مثل كتاب “تاريخ الأمم والملوك” للطبري. وصفهم المؤرخون بأنهم امتنعوا عن عبادة الأوثان، واتخذوا القمرَ إلهًا- (الصابئة) وهي أولى البدايات التوحيدية، ربما لارتباطه بأسرار الخصوبة في البيئة الصحراوية. تُحدد مساكنهم في “الأحقاف” المذكورة في القرآن، والتي يُرجح أنها منطقة ظفار الحالية في سلطنة عُمان، حيث انتشرت عبادة الإله “سين“ (إله القمر في بلاد الرافدين)، وامتد تأثيره إلى الحضارات العربية الجنوبية والحبشة.
عَبَد العرب الجنوبيون القمر تحت مسمياتٍ رمزيةٍ تدل على التبجيل، مثل لقب “كهلن“ (بمعنى القدير أو العزيز)، الذي ورد في نقوش المسند. وقد اتخذت قبائل كهلان اليمنية اسمًا لها من أحد ألقاب القمر، بينما حافظت قبائل مثل الكواهلة في السودان على اللفظ ذاته (كهل) كإرثٍ لغويٍّ مشابهة للتسمية.
- تُظهر النقوش العربية الجنوبية حرصًا على عدم التلفظ باسم القمر مباشرةً، واستعاضت عنه بصفات مثل “ورخ“ و**”شهر”**، في حين دخلت تسمية “قمر“ إلى العربية لاحقًا، وفقًا لتحليلات المستشرقين.
- يلفت المؤرخ جواد علي في “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” إلى تفرد العرب الجنوبيين بتقديس القمر مقارنة بالساميين الشماليين، معتبرًا إياه مركزًا لنسيجهم الديني.
شهدت مناطق الحجاز في القرون الأولى قبل الإسلام وجودًا كبيرًا للجاليات الحبشية والنوبية، وهو ما تؤكده إشاراتٌ إلى تعلم بعض الصحابة – مثل زيد بن ثابت وحنظلة بن الربيع – للغات الحبشية والقبطية. يُفهم من هذا السياق أن التبادل الثقافي ساهم في نقل رموز العبادة القمرية بين سواحل الجزيرة وشرق أفريقيا، حيث حمل المهاجرون الأفارقة معتقداتهم الفلكية إلى عمق الصحراء العربية.
في الممالك السودانية القديمة، مثل كوش ومروي، ظهرت رموز قمرية متداخلة مع عبادة الآلهة المصرية، كالإلهة إيزيس التي تُصور أحيانًا وهي تضع هلالًا على تاجها، في إشارة إلى دور القمر في أساطير الخلق والبعث.
- يُشير البروفيسور ديريك ويلسبي في كتابه “مملكة كوش” إلى استخدام الكهنة للتقويم القمري في الطقوس، رغم عدم وجود إله قمر مستقل في البانثيون الكوشي.
- اكتشف فريق فرنسي عام 2019 في منطقة موساووارات برسوم جدارية لملك مروي يتلقى “بركة القمر” من كائن مجنح، مما أثار نقاشًا حول طقوس قمرية. لكن البروفيسور سليمان بشير (جامعة الخرطوم) يرى أن هذه الرموز تعكس تبجيلًا فلكيًا لا عبادةً مباشرة.
يحمل الموروث السوداني إشاراتٍ إلى مرحلةٍ قديمةٍ من عبادة القمر المؤنث، حيث يُشار إليه في اللهجات المحلية باللفظ المؤنث “القمرة“، على عكس العربية التي تُذكِّر القمر كمذكر. يُعتقد أن هذه السمة تعود إلى تأثيرات أفريقية سابقة على الثقافات السامية، التي اتخذت القمر إلهًا ذكرًا مثل “سين“.
تحتفظ الذاكرة الشعبية السودانية بأساطير تعكس التمازج بين الرمزية القمرية والبيئة المحلية، مثل أسطورة “زواج أبو الدرداق (خنفساء الروث) من القمر“، التي تُصور الخنفساء وهي تصعد إلى القمر كل ليلة في طقس زواج أسطوري، كتعبيرٍ عن دورة الحياة والخصوبة.
لم تكن عبادة القمر في المنطقة مجرد ظاهرة دينية معزولة، بل حلقة في سلسلة التمازج الحضاري بين الجزيرة العربية وشرق أفريقيا. من نقوش اليمن القديمة الى شرق أفريقيا – الحبشة والتي تمثل الإمتداد بين أثيوبيا وأريتريا والسودان الشرقي إلى تيجان إيزيس في مروي، ظل القمر شاهدا على حوارٍ متواصل بين الإنسان وأسرار الكون، يحمل في تضاعيفه بصمات الهجرات القديمة وتبادل المعتقدات.
طـــقس سَرِقْ وَرِح عند بجة الجنوب:
عندما يهل هلال كل شهر يبتهجون ويحتفون به ويوقدون ناراً أمام منازلهم تسمى (بَرِهْ)، وتقف المرأة متجهة نحو القمر رافعةً يدها اليمنى ثم اليسرى وتردد:
(هيلل أمبارك ورح كير و بركت إلا إدي مانيتا و إلا إدي قلبيتا ، إب عافيت و آنف غدوي، عبينا لأبر ديبو ونؤوشنا لدابر ، ريمنا لعقبل ديبو وعمساتنا تتفرج ديبو، محبر فارح ، حرس باقل و طرع دارر، شهادت قِبأ إنا وعبادت قِبأ إنا …إلخ
وهي أدعية للخير والنماء وسعة الرزق والعافية وطول العمر ولم الشمل، وهذه الأدعية تؤكد أنهم في العصور القديمة كانوا يعبدون القمر.
ثم تضرب المرأة بعصا قصيرة مقدمة عامود البيت سبع ضربات متتالية، ويعتقدون أن هذا اليوم هو يوم السعد والبركة.
من الواضح أن هذا الطقس من رواسب الديانة القمرية التي كانت سائدة في الحضارات القديمة في وادي النيل واليمن وبلاد الرافدين.
ولعلَّ هذا الطقس الديني يرتبط أيضاً بقصة سيدنا موسى عليه السلام فإذا تأملنا رمزية إشعال النار المقدسة (بَرِهْ) فهي ترمز إلى الحقيقة والهدى وتخليداً لذكرى حادثة سيدنا موسى عليه السلام عندما كان في ليلة مظلمة باردة وهو تائه، فبينما هو كذلك أبصر ناراً تأجج في جانب الطور فقال لأهله “أمكثوا أني أنست ناراً لعلي اءتيكم بخبر”. قال تعالى: (وهل أتاك حديث موسى* إذ رأى ناراً فقال لأهله أمكثوا أني ءانست ناراً لعلي ءاتيكم منها بقبس أو أوجد على النار هدى) سورة طه: الآية 10
وفي تلك البقعة المباركة كلّم الله عزوحل نبيه موسى وأمره بتوحيده.
أمّا عادة ضرب عامود مقدمة البيت بالعصا سبع مرات فترمز إلى عصا موسى.
لأنَّ سيدنا موسى عليه السلام كان يحمل على يده عصا عندما لقي الله عز وجل ، قال تعالى: (وما تلك بيمنك يا موسى قال هي عصاي اتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) سورة طه الآية: 18
فأصبحت عصا موسى معجزته وبرهانه، فقد تحولّت عصا موسى إلى ثعبان ضخم قضى على ثعابين سحرة فرعون، وضرب بها الحجر فتفجر إلى ماء، وضرب بها البحر فانفلق واستطاع عبور البحر ونجا من القوم الظالمين.
والناظر والمتمعن لهذه الطقوس يجد أنها تجسّد مرحلتين: مرحلة عبادة القمر ثم مرحلة التوحيد والهدى على يد نبي الله موسى.
المصدر: صفحة بجة الجنوب : Facebook
سرديات الزبالعة
وأنه لما بلغ مجموعة من الرعاة الرحل عرف منهم أنهم من جماعة أبي جردة (الزبالعة). ورحب زعيمهم به وبمن معه. ودار بينهم حوار جاء فيه:
– “أخبرني أيها الزعيم ، ما هو اسم قبيلتكم؟”
“الكل يسمينا بـ “أبو جريد”، أما اسمنا الحقيقي فهو الزبالعة”. (أشار الياس توناولو وريتشارد هيل إلى أن الكاتب (بيلتريم) قد عكس الاسمين. فنقادهم يسمونهم الزبالعة بينما هم يسمون أنفسهم “ناس أبو جرد”.
– “وكم يبلغ عددكم؟”
“ليس أكثر من 300 رجل وامرأة. وننقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية العدد تقريبا. نحن قسم واحد وهنالك قسمان آخران يعيشان في الغابة”.
– “كم من السنوات مرت عليكم وأنتم في هذا المكان؟”
“في أوساط العرب ، نحن أقدم قبيلة عربية هنا. نحتفظ بلغة سليمة ، ودماء (عربية) خالصة، وحياة بسيطة (في الأصل متخلفة. المترجم)”.
– “ومن أين أتى أسلافكم؟”
“أتوا من حيث تشرق الشمس”.
– “ولم تركتم بلادكم؟”
“كان آباؤنا رعاة مثلنا الآن ، ويحبون حريتهم أكثر من أي شيء آخر، ويعيشون في الصحراء. وتعرضوا لانقسامات وصراعات وغزوات لأجانب زعموا أنهم انتصروا عليهم. وقاوم اسلافنا الأجانب الغزاة، ولكنهم سئموا من تلك الحروب الدموية فهاجروا وأتوا لهذه الغابات”.
– “هل أنتم مسلمون؟”
“لا. لسنا بمسلمين”
– “وما هو دينكم؟”
“نحن على دين آبائنا”
– “هل تؤمنون بالله؟”
“نعم نؤمن بإله واحد ، الله الواحد ، الذي يتجلى خاصة في النار وفي النجوم (القمر)”.
– “لذا تحبون النار والنجوم؟”
“بالتأكيد. في حب النار والنجوم نحب الله”.
– “من خلق كل شيء؟”
“الله خلق كل شيء”
– “ومن خلق البشر؟”
“الله هو من خلق البشر”
– “وكيف خلق الله البشر؟”
“لا أحد يدرى ، ولكننا نعلم أنه قد كتب على الإنسان أن يعيش حياته في كبد مستمر ليدافع عن حريته وسلامه اللذين خلقه الله من أجلهما. ولهذا فصل آباؤنا حياتهم عن مجتمع البشر، حيث لا يوجد في مجتمعهم حرية ولا سلام”
– “وكم عدد الذين خلقهم الله في البدء؟”
“لا علم لنا بذلك.”
– “وهل خلق الله الأرواح.”
“بلا شك خلق الله الأرواح التي توجد في السماء / الجنة (heaven)”.
– “وهل تؤمن بأن هنالك روحا أكبر هي سبب الشر، وإن كان الأمر كذلك ، فماذا تسمونها؟”
“ نعم . هنالك روح أكبر هي سبب الشر نسميها (الشيطان الأكبر). وهنالك أرواح أصغر تعتمد عليه. وعلينا أن نسترضيهم ونستعطفهم بالقرابين”.
– “وما هي القرابين التي تقدمونها؟”
“نذبح بعض الكباش ، ونذبح ثورا كل عام للنار وللنجوم لأن الله يظهر في النار وفي النجوم”.
– “وأين تصلون؟”
“نصلي قرب النار ، ونحن نرنو إلى النجوم”.
– “وهل سيفني هذا العالم يوما ما؟”
“نعم ، سينتهي هذا العالم يوما ما ، وسيدمر هذا العالم بالنار. ولكن سيولد كل شيء من جديد”.
– “عندما نموت ، ماذا يحدث لنا؟”
“حين نموت سنكون سعداء إن كنا نحبب السلم ، وإلا سيعاقبنا الله . ولا نعلم إن كان العقاب أبديا أم لا”.
-”وهل لله جسم؟”
“لا. ليس لله جسم . هو في كل مكان ، ويتحكم في كل شيء.
المصادر:
مجلة بجة الجنوب :Facebook
عَبَدَة القمر | مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية | مؤسسة هنداوي
آلهة ظفار قبل الإسلام | بِدَايَات
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.
- ديريك ويلسبي، مملكة كوش: القوة الأفريقية.
- سليمان بشير، الرمزية الدينية في الفن المروي (محاضرات جامعة الخرطوم).
- تقارير بعثة الآثار الفرنسية في موساووارات (2019).
اترك تعليقاً