للكاتب: أيمن هاشم
كانت اليعاسيب الصغيرة تُحلق فوقَ حقل البرسيم، طنين حشر الزَّنان فوق البراعم المتوجة يملأ الأفق، الحشائش الخضراء توقفت عن التمايل، هدأت الريح الشمالية ثم أخذت السماء تُلملم السُحب البيضاء الصيفية.
نعقت الغربان من فوق قلاعِ المكوك[1] القديمة، في الطريق الرملي المؤدي إلى المقابر، كانت أمي تغذ الخطى، فقد تبقى يوم على العيد الذي أعلنته الإذاعة، من اتجاه الخلوة أسفل الطريق كانت صفوف الرجال تتجمع لصلاة الجمعة.
اتخذت السيدات طريقًا أخرَ غير الذي يمر بالخلوة، ليتجنبن النظرات والكلام، كان ثوب جدتي قد حركته تيارات الهواء ثم مزقته اللافتة الحديدية للقبر، أخذت تتلفت ثم حركت قدميها بسرعة، الوقت قد اقترب.
عندما وصلت جدتي، أسرعت ناحية المطبخ الحجري، ثم وضعت الأحجار لتعد ثريد اللحم، أوقدت الكبريت في الفحم الحجري ثم راحت تحرك الهبابة لتحرك الهواء، انبعث الدخان مُنسابًا من بين الأخشاب، ثم احمرَّ الحطب وزادت حرارته وأحدث طرقعة.
راحت القدور تغلي، رمت جدتي الملح في حساء اللحم، ثم قالت لأمي: هذا لأجل أخوانك التسعة الميتين، سيأتي الأطفال في أيِّ وقت.
كنست أمي الرمالَ البيضاء ثم تركت الباب مفتوحًا، من بعيد جاء الصوت محمولًا بالريح الشّمالية الشرقية، لم تتوقف رياح السموم عن اللعب بجرائد النخيل، كانت ريح حارة.
طقْ طَرَقْ طقْ، أصوات الأولاد تقترب من حي العرب. سيأتي الأطفال في أيِّ وقت، وسأرى إخوتي، قالت أمي وكانت تسأل كيف شكلهم، عدلت جدتي الملاءة ثم أمسكت المسبحة، إنهم يشبهونك. أليس اليوم هو الجمعة اليتيمة التي يعقبها العيد؟ سيأتي إخوانك الميتون، وسيكونون جائعين.
“طقْ طرقْ طقْ، الحارة ما مرقت، ست الدوكة ما وقعت، قشاية قشاية، ست الدوكة نساية”. جاء الصوت عاليًا واقتربوا من الباب.
أسرعت أمي ناحية الباب بصحن الثريد، تحلق حوله الأطفال، أخذ طفلان يقتربان من السرير الذي ترقد عليه جدتي، كانت تمسك بالمسبحة وأمسك أحدُهم بيدها، همسَ: يُمَّه!
التفتت الجدة، ثم أخرجت من تحت الوسادة حلاوة ريا، مدتها إلى الأطفال فركضا حَول السرير، أمسكت عطر الفرير ونثرته في جلباب الصبي، كانا يغنيان لها بفرح، قالت أمي: هل أزعجوك؟
ردت الجدة: لا. كان تمر الجاوة قد ملأ جيوبَ المشاغبين.
بعد صلاة العيد، أخذت جدتي تعتلي العتبة ناحية التل إلى المقابر، وبجانبها والدتي تحمل سجادة الصلاة، سمعنا نعيق الطيور، كانت الأُسر تزور أقاربَهم الميتين، اخترقتا الحصى المدبب وجلست والدتي بالقرب من جدتي، امتلأ أعلى تلك القبور بحلاوة ريا وتمر الجاواة، قالت أمي: لقد جاءوا أمس؛ أليس كذلك؟
أمسكت جدتي بالمسبحة ثم قالت: في خلوة الحامداب القديمة- وأشارت بيدها إلى التلال الحصوية، التي تظهر السَّراب- أخبرني الشيخ ود فضل بعد درس التحفيظ بأسماء أطفال، كتبهم على اللوح؛ ظننت وقتها أنه درس الإملاء، وعندما خرج محوتهم جميعًا، ثم كتبت باء بنت. ضحكت الجدة وأكملت: لم يستطع جدك أن يصبر، كلَّ مرة كنت أحبل فيها وأخرجهم، كانوا زرقًا كالسماء؛ يبدو أنهم أحبوا الفتة[2] الذي صنعتيه.
عندما رجعت الجدة، في المساء قالت أمي: أريد أن أرى إخوتي، كان ذلك في أوَّل أيام العيد، لقد جاءوا أمس.
– ردت أمي: لكنني لم أرهم. التفتت الجدة ناحية أشجار الحناء، وأشارت حيث طائرٌ وحيد أزرق كان يحلق أعلى نَوار الحناء، طائر جنة صغير تائه يصنع زقزقة جميلة اقترب من وعاء الماء وغمر رأسه في الماء، كان أزرق وجميلًا، قالت الجدة: هذا المشاغب، لم يكن مكتوبًا، إنه يخصك.بعد سنين مضت من وفاة الجدة، كانت اليعاسيب الصغيرة لا تزال تحلق فوقَ حقل البرسيم، طنين حشر الزَّنان فوق البراعم المتوَّجة، الحشائش الخضراء توقفت عن التمايل، هدأت الريح الشمالية ثم أخذت السَّماء تلملم السحبَ البيضاء الصيفية، حيث خرج الماء من بين قدمي أمي، قالت القابلة سيموت، ولكن والدتي كانت تحكي وتبكي: لقد قايضنا حياتك بحياة الطائر الأزرق. ثم فتحوا ذلك القفص وخرج الطائر.
[1] مفردها مك وهي تعني ملك
[2] الثريد
اترك تعليقاً