تعني كلمة «أفندي» -السيد، وهي من ألفاظ التشريف التي انحدرت إلينا عن الأتراك، فإن أكثر ألقاب التشريف ما برحت باللغة التركية، «فأفندي» تركية، و«بك» تركية، و«باشا» تركية أيضًا!
دخلت هذه المفردات وتم تعريبها وإستخدامها، أما جوهرها فباقٍ كما هو تركي وابن تركي، فبدلًا من أنه كان يقال مثلًا: «عزتلو أفندي»، أصبح يقال: «صاحب العزة» وبدلًا من أنه كان يقال: «سعادتلو أفندي حظر تلري» أصبح يقال: «حضرة صاحب السعادة»، على أن تلحق الأولى بلقب «بك»، والثانية بلقب (باشا).
أما «أفندي» فلقد علمت أن معناها السيد، وأما الميم التي توصل بها أحيانًا فهي أداة الإضافة للمتكلم، «فأفندم» معناها «سيدي»، ولهذا كان ولي الأمر إذا وجه الخطاب إلى رئيس «النظار»، أو إلى من يقوم مقامه في المناسبات المختلفة لا يكتب مطلقًا: «دولتلو أفندم»، أو «عطوفتلو أفندم» بل يكتب: «دولتلو باشا»، أو «عطوفتلو باشا»، لما تعلم من أنه أجل محلًّا من أن يدخل في سيادة أحد على أي وجه من الوجوه.
ونعود إلى كلمة «أفندي»، فنقول: إن أصحابها الترك كانوا يضنون بها أعظم الضن، ويغلون قدرها أيما إغلاء، وذلك على العكس من كلمة «بك» فإن كل رجل … هناك يكاد يكون «بك»، وأرجو أن تنطق بالكاف باء، فذلك هو المنطق الصحيح، أما «أفندي» فكانت لقب ولي عهد المملكة العثمانية ووارث منصب الخلافة الإسلامية، كما كانت لقب أعضاء البيت المالك هناك، كذلك كانت لقب شيخ الإسلام.
الخديوي عباس حلمي الثاني – الأفندي
ففي مذكرات علي جيفون الجندي في الجيش المصري الإنجليزي (1896)، يقول إنه عند إلقاء المحاضرات على المجندين كان يؤكد على الولاء للأفندي:
«لا تفكروا في أنفسكم، نحن جميعًا خدام جلالة الخديوي. كل أمر يُصدر لصالح الخدمة، ويجب طاعته فورًا وبفرح. الجوع والعطش والتعب والجروح والموت كلها أحداث طبيعية في حياة الجندي. لكن “كُل مِري” (كل شيء للحكومة)!». وتختتم مذكراته بعبارة: «إفندميز تشوك ياشيه! (ليعش سيدنا الأعلى للأبد!) النهاية، تكشف كلمات جيفون ولاءً عميقًا للخديوي عباس حلمي الثاني.
تمرد الجهادية – رأس أفندينا
يروي عن الأحداث الأب جوزيف أورفالدر 1882-1892م في كتابه عشر سنوات من الأسر في معسكر المهدي:
” كنت في ذلك اليوم محموماً ، وكنت مستلقى على عنقريبي مساءاً ، ظهر مذنباً فى السماء أضاء سماء المدينة وجعلت ليلها كنهار من كثرة الأضواء والنجوم المتفجرة. وفي اليوم التالي ، حوالى منتصف النهار أصبت بزعر من جراء سماع صوت الرصاص المتطاير في كل مكان ،وخرجت من قطيتي لأجد الزريبة التى كانت تعج بالناس خالية تماماً من ساكنتها ، وحتى من الحراس ، خرجت مسرعاً لدار أمير الجهادية المصري ( عبدالله ) ووجدته يقف مع إثنين من حراسه أمام داره وهو في حالة هياج ، وعند سؤالي له عن الحاصل ، رد عليّ بأن عبيد بيت المال قد حطموا كل شئ ، وفجاءة ظهر مجموعة من الأنصار يقدر عددهم ب نحو خمسين فرداً وهم في حالة هياج ، استلوا سيوفهم وأخذوا أمير الجهادية معهم إلى ساحة المديرية، وتبعتهم إلى هناك ، وتجمع حوله الأنصار وكادوا أن يفتكوا به لولا تدخل ود الهاشمي ، وهنا بدأ الأنصار يوجهون التهمة لعبدالله بأنه محرض لحركة الجهادية بإعتبار كونه أميرهم ، لقد دافع الأمير عن نفسه وقال بأنه لم يبرح منزله ، لكن دفاعة كان هباءاً ، حيث بدأ بعض الأنصار يصرخون ويقولون أقطعوا راسه ، وجثى الأمير على ركبتيه مستسلماً، حيث هوى رأسه وحارسيه ، ورمي بجثماينهم أمام المسجد ليراه الجميع .
يقول الأب جوزيف ، إن الأنصار عندما راؤه في مباني المديرية طلبوا منه أن يعود إلى الزريبة ، ولما كان الزيبة قريبة من المديرية كنت اسمع في الليل اصوات الجهادية وهم مبتهجين حيث كانوا يغنون ويرقصون ويشربون ، ويطلبون من الأنصار مشاركتهم .
وفي وقت مبكر من صبيحة اليوم التالي عزف العساكر « سلام الخديوي « فدب فينا النشاط . وبحلول وقت شروق الشمس كان إطلاق النار قد استؤنف واستمر حتى الساعة التاسعة . وقام العساكر ببضعة غارات على الجمال والحمير ولكنهم لم يحاولوا الهجوم على الدراويش . ولم يكن من الواضح ما ينوون فعله . ولما تيقن أمير الدراويش أن الروح المعنوية للعساكر قد انهارت أرسل إليهم إمامهم ليخبرهم أنهم إذا رغبوا في الاستسلام فسوف يتم العفو عنهم . وقد أثار ذلك غضب العساكر بدرجة كبيرة وزجروا الإمام بألا يتكلم كلاماً فارغاً . ثم سحبوه عنوة إلي حوالي خمسين خطوة من الطابية وطعنوه عدة مرات بحرابه ثم ألقوا بجثته في اتجاه المديرية بينما كانوا يصيحون « هذا الرأس مقابل رأس أميرنا عبد الله « واستمروا أثناء اليوم في القيام بهجمات متقطعة من داخل الطابية واستولوا على كميات من البهائم .
بعد الظهر غادر العساكر مخزن البارود وكانت الفرقة تعزف الموسيقى والنساء والأطفال يمشون في المقدمة وتليهم الذخيرة محاطة برجال مسلحين وأخيراً العساكر وهم يمشون في نظام جيد وفي وضع الاستعداد المقاومة أي هجوم مفاجئ .
يواصل الأب جوزيف روايته ، فيقول في اليوم التالي رفع الجهادية سلام الخديوي إيذانا بالولاء للخديوي وخلعهم للمهدية .قرر قوات الجهادية السود مغادرة الأبيض إلى الدلنج بكل عوائلهم ، والعبيد الذين إنضموا إليهم وهناك عينوا أحد جنود سلاطين باشا القدامي يدعي ( بشير ) ربما قصد ( علي يوسف ) ليكون مديرا عليهم ، وتخلوا عن كل مظهر من مظاهر المهدية ، وجعلوا عقوبة الجلد لكل من يحلف بالمهدي ، وواتخذوا شعارهم ( هاك رأس أفندينا ) ومن الدلنج اتجهوا لجبال الأما ومنها لجبال الغلفان ( الأنشو ) حيث أعلنوا حكومتهم .
اترك تعليقاً