في جُنوب السُودان يتموَضع الشعرُ في مَقامَ الأكسيرِ الذي يُحوَّلُ الكلماتُ المُغَنّاةُ إلى نُبؤات تَتناقلها الأجيال، حامِلًا أسرارَ الأسلافِ وحِكَمَ الزَّمنِ القَديمةِ. وهُوَ الوجهُ الأخَر للحياةِ، والكِتابُ المَفتوحُ الذي يُدوِّنُ بِحروفِ اللَّحنِ تاريخًا شَفَهِيًّا، ويَرسمُ مَلامحَ الهُويَّةِ الاجتماعيَّةِ والثَّقافيَّةِ لِقبائلَ تَعتزُّ بِأصواتِها كَما تَعتزُّ بِأراضِيها.
تَحتل الأغانِي التي تُتلى في طِقوسَ الأرواحِ مكانةً قُدسِيَّةً. فَالشِعرُ الرُّوحانِيَّ يَتَوارَثُ كَوَحيٍ مُقَدَّسٍ، لَا يَقبَلُ الزِّيادةَ أوِ النُّقصانَ، تنَقَلَتْهُ الأسماعُ عبرَ القُرونِ بِدِقَّةِ وحفِظتَه ليبقى، وَفي طَقوسِ “الكَجُوريِّ” أو “الوَسيطِ الرُّوحَانِيِّ”، تَتَجَلَّى خُصوصيَّةُ التَّواصلِ مَعَ العَالَمِ الآخَرِ.
في عالَم النُصوص الشِعرية الرُحانية نَجِد الجدَ “نُونْدِينْق” –الكَاهِنُ الذي يحمِل عَصا “الدَّانْقِ” المُزيَّنَةِ بِأسلاكِ النُّحاسِ – وتُنقل تَعَاليمَهُ في أَحاجِي “دِييت نُونْدْيَانْق”، أغنياتٍ تَحمِلُ صَلواتِ القَبيلَةِ وَتَحضيرَاتِهَا لِاستِحضارِ الأرواحِ.
لَكِنَّ الشِّعرَ النِّيلِيَّ لَيسَ سِردًا لِلرُّوحانِيَّاتِ فَحسب، فَهُناكَ أغنياتُ الحَصادِ التي تَتَهادَى كَنَسيمِ الخَريفِ، وَألحانُ البَناتِ في طُقوسِ البُلوغِ عِندَ الدِّينكَا، وَأهازيجُ صَيدِ السَّمَكِ التَّقليديَّةِ عِندَ النُّوَيْرِ، وَتَرَنُّماتُ النِّساءِ حَولَ مَزارعِ الذُّرةِ، وَأصواتُ النَّفِيرِ التي تَهُزُّ الأَرْضَ قَبيلَ الحُروبِ. هَذِهِ الألحانُ المُتَنَوِّعَةُ تَتَحدَّى التَّصنيفَ، فَكُلُّ مَقطعٍ مِنهَا يَحْمِلُ فَلْسَفَةً قَبَليَّةً وَحِكايَةً تَختَزِلُ قِيَمَ شَعبٍ وَعَمرَانَهُ.
نُبُوءاتُ “نُونْدِينْق”: عَينُ الرَّبِّ تَرى مَا خَفِيَ عَنِ البَشَرِ
في لَيلَةٍ مُمطرة، خَرَجَ “نُونْدِينْق بُونْق” – وَاسمُهُ يَعني “هِبَةُ الرَّبِّ” – إِلى قَومِهِ، وَكَفُّهُ تَقطُرُ دَمًا كَشَاهِدٍ عَلى نُبُوءَةٍ دَامِيَةٍ قائلاً:
“رُول كَاتُوم بَار، إيه بي وَانْق دَا لُونْج كَيه رِيمْ”، فَتَرجمَتُها مِن لُغةِ النُّوَيْرِ: “سَتَنْهَمِرُ الدِّمَاءُ وَتَسِيلُ في مَدَائِنِ الرُّولِ (العَرَبِ)”. وَقَدْ تَحَقَّقَتْ نُبُوءَتُهُ المُرَوِّعَةُ بَعدَ قُرونٍ، حِينَ نَشبت الحُروب في قلب الخُرطوم.
وُلِدَ “نُونْدِينْق” في أَرْبَعينيَّاتِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، سُمي “نَظَّارَةُ الرَّبِّ” لِرُؤيةِ المَستَقبَلِ. وَعِندَمَا أَخبَرَ قَومَهُ بِأَنَّ الرَّجُلَ الأَبْيَضَ سَيَأتِي بِدِينٍ جَديدٍ، سَخِرُوا مِنْهُ، لَكِنَّهُ أَقسمَ لِأَحَدِ المُشَكِّكِينَ أَنَّ ابنَتَهُ سَتَكُونُ أَولَ مَن يَتَزَوَّجُ أَجنَبِيًّا. وَبَعدَ سِنِينَ، تَحَقُّقَت نُّبُوءَته، فَصَارَ “نُونْدِينْق” فِي ذَاكِرَتِهِمْ شاعِراً يُمسِكُ بِخُيوطِ الطَّبيعَةِ، وَرَمزًا لِلقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَحمِلُهَا عَصَاهُ “الدَّانْق” – تِلكَ القِطعةُ الأَثَرِيَّةُ الَّتِي سُلِبَتْ بِأَيدِي البَرِيطَانِيِّينَ عَامَ 1929، وَلا تَزالُ تُمَثِّلُ لِلنُّوَيْرِ شَعلَةَ كِبريَاءٍ قَبَلِيٍّ.
هَذِهِ النبؤات لَيسَتْ سِوَى نُقَطَةٍ في مُحيطِ التُّرَاثِ النِّيلِيِّ، الذَّي يَظَلُّ شَاهِدًا عَلى أَنَّ الشِّعرَ وَالأُسطُورَةَ لَيسَا فَنًّا فَحسب، بَل هُمَا رُوح الحَياةِ نَفسها.
اترك تعليقاً