أحب الفضاء الخلاق الذي تجترحه يسرا من/في مشاهداتها ومشاويرها النقدية كما تثيرني طرائق تفكيرها.
وأظن أن هذه الفترة من حياتنا هي الأكثر إلحاحاً،لتأمل إستبصار وتوثيق ما نمر به عسى أن نخلق جسرنا المنشود للعيش معاً بسلام ..
عادة ما أحتفظ بالكثير من المنشورات/المواضيع التي أفكر فيها،أرغب في الكتابة عنها،لكن مشاغل الدنيا وقسوة الحرب تضرب بالقلب في سنان كل موت.
بالعودة إلى يسرا، أثارني منشورها السابق،عن فصل الكاتب عن الكتابة في سياق التحرش والسعي نحو أدوات جماعية للعدالة والنقد،والذي يفجر مرة أخرى قضية التعامل مع الإنتاج الفكري أو الفني لأشخاص متهمين بممارسات مؤذية، مثل التحرش، نقاشًا معقدًا يتداخل فيه السياسي والأخلاقي والاجتماعي.
عندما يُتهم كاتب أو فنان بسلوكيات ضارة، كيف يمكن قراءة أو مشاركة إنتاجه دون إعادة إنتاج الأذى أو التطبيع مع تلك السلوكيات؟ وكيف يمكن التعامل مع الاتهامات دون اللجوء إلى الإقصاء العنيف أو العقابية؟
تاريخيًا، ارتبط النقاش حول فصل الكاتب عن إنتاجه بفكرة “موت المؤلف” لدى رولان بارت، التي ترى النص ككيان مستقل عن حياة المؤلف الشخصية.وفي سياقنا، حيث يتداخل الحراك النسوي مع قضايا العنف الجنسي في ظل غياب مؤسسات عدالة فعالة، يصبح هذا الفصل إشكالية سياسية واجتماعية. فمن ناحية، يمكن للإنتاج الفكري أن يحمل قيمة معرفية أو فنية، حتى لو كان منتجه متهمًا بسلوكيات ضارة. ومن ناحية أخرى، قد تُفسر قراءة أو مشاركة هذا الإنتاج كتجاهل لألم الناجيات أو تطبيع لسلوك المعتدي.لكن السؤال الذي يطرح نفسه،كيف يمكن التوفيق بين الاستفادة من الإنتاج الفكري والحفاظ على التضامن مع الناجيات؟
وكيف يمكن تصميم أدوات جماعية للتعامل مع هذه التوترات دون اللجوء إلى الإقصاء أو العقابية؟
أحاول التفكير فيها،من خلال ثلاثة محاور،نقد الإقصاء، آليات الإفصاح النسوي، ودور النقد الكلي.
نقد الإقصاء،كفعل عنيف يحتاج إلى إطار إنساني للإقصاء، سواء كان عزلًا اجتماعيًا أو رفضًا للتفاعل مع شخص متهم بالتحرش، هو فعل يحمل طابعًا عنيفًا إذا لم يُصمم ضمن إطار إنساني.وكما تشير النقاشات الفلسفية حول العدالة، فإن الإقصاء دون سياق يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية وإغفال إمكانية التغيير الفردي.وفي بلد تفتقر فيه المجتمعات إلى مؤسسات عدالة فعالة، يصبح الإقصاء أحيانًا الاستجابة الافتراضية للتعامل مع الاتهامات، لكنه يثير إشكاليات عديدة،كغياب الإطار الإنساني والتي تتمظهر في عملية الإقصاء دون آليات للمساءلة أو إصلاح الضرر الذي قد يؤدي إلى عزل الأفراد بشكل دائم، مما يتعارض مع مبدأ أن السلوكيات الضارة ليست جوهرية بل نتيجة عوامل يمكن معالجتها.كما أن محاولة تقويم الآخرين بشكل مباشر، كما يحدث في بعض أشكال الإقصاء، تضعف عملية التغيير الاجتماعي لأنها تشتت الطاقة من تقويم الذات، وهو العنصر الأساسي لأي تحول حقيقي،ويثير ردود فعل دفاعية لدى المتهم، مما يعيق إمكانية المراجعة الذاتية ويولد دوامات عنف جديدة، كما في حالة إثارة مشاعر الصدمة (PTSD) لدى الناجيات عند مشاركة إنتاج المتهم.بدلاً من الإقصاء، يمكن تصور نهج يعتمد على العدالة التصالحية، التي تركز على إصلاح الضرر من خلال الاعتراف بالأذى، مساءلة المعتدي، ودعم الناجيات.
هذا النهج يتطلب تصميم عمليات جماعية تأخذ في الاعتبار ديناميكيات القوة وتحترم مشاعر الناجيات.
في مستوى آخر ،تُعد آلية “نصدق الناجيات” من أبرز أدوات الحراك النسوي في السودان وخارجه، حيث تهدف إلى خلق مساحة آمنة للناجيات للتعبير عن تجاربهن دون مواجهة التشكيك أو الإقصاء. ومع ذلك، يثير تطبيق هذه الآلية تساؤلات حول كيفية التوازن بين دعم الناجيات وتجنب تحويل الإفصاح إلى محاكمة عامة.
بإعتبار أن”نصدق الناجيات” ليست عملية قضائية، بل آلية للإفصاح تهدف إلى تمكين الناجيات من رواية قصصهن.
حيث غالبًا ما تُواجه الناجيات بالوصم، تُعد هذه الآلية خطوة ثورية لكسر الصمت.لكن يكمن التحدي في التطبيق،عندما يُفسر الإفصاح كإثبات نهائي للذنب، قد يؤدي إلى إقصاء المتهم دون فرصة للدفاع أو المراجعة. هذا التحول من الإفصاح إلى المحاكمة يثير تساؤلات حول العدالة، خاصة في سياقات تفتقر إلى أدلة مادية أو مؤسسات محايدة.كما أن مشاركة إنتاج شخص متهم بالتحرش قد تُثير مشاعر الصدمة لدى الناجيات، خاصة إذا لم تُراعَ مشاعرهن.وهذا يتطلب حساسية عالية عند التعامل مع النصوص أو الأعمال الفنية.
ربما يمكننا تطوير بروتوكولات لآلية “نصدق الناجيات” تشمل،إنشاء مساحات آمنة، تتضمن تنظيم جلسات إفصاح سرية تُدار بواسطة أشخاص مدربين على الاستماع النشط والدعم النفسي. والعمل على حفظ الروايات بشكل آمن لتجنب إعادة الصدمة عند تداولها.كما يراعى فصل الإفصاح عن المساءلة،بحيث يتم توجيه الاتهامات إلى عمليات مساءلة منظمة (مثل لجان تحقيق مجتمعية) بدلاً من تركها في الفضاء العام.
لكن خطر تحويل الإفصاح إلى محاكمة يكمن في إعادة إنتاج ديناميكيات القوة التي ينتقدها فوكو، حيث يصبح المتهم هدفًا للعقاب بدلاً من إصلاح الضرر.
وتؤكد آرنت على أهمية العمل السياسي كنشاط جماعي يحدث في الفضاء العام، حيث يتفاعل الأفراد من خلال الحوار والفعل لخلق عالم مشترك. وفي سياق قضايا التحرش، يمكن تصور الفضاء العام كمساحة للنقاش حول كيفيةالتعامل مع الإنتاج الفكري لشخص متهم، دون اللجوء إلى الإقصاء الفردي أو العقابية، وبدلاً من اتخاذ قرارات فردية بشأن قراءة أو مشاركة نص لشخص متهم بالتحرش، تدعو رؤية آرنت إلى خلق فضاءات عامة للحوار، مثل حلقات النقاش النسوية.
ويشتغل النقد الكلي كأداة مركزية للتعامل مع الإنتاج الفكري لأشخاص متهمين بممارسات سيئة،بحيث يسمح بتقييم النص في سياقه الاجتماعي والسياسي دون التغاضي عن الاتهامات.شاملاً محتوى النص،شخص الكاتب، طريقة المشاركة، وتأثيرها على الجمهور.وفي سياق قضايا التحرش، يمكن تطوير إطار نقدي يتضمن،تحذيرات المحتوى كالإشارة إلى خلفية الكاتب عند مشاركة النص، مع توضيح الاتهامات الموجهة إليه، لتجنب إثارة مشاعر الناجيات.وتقييم النص في ضوء ديناميكيات القوة، مثل كيفية تعزيزه أو تحديه للهياكل الاجتماعية التي تدعم التحرش،ويمكن تشجيع مناقشات مفتوحة حول النص ضمن إطار يحترم مشاعر الناجيات، بدلاً من مشاركته بشكل فردي قد يُفسر كتجاهل.على سبيل المثال، إذا كان النص عبارة عن مقال سياسي لشخص متهم بالتحرش، يمكن مشاركته مع تعليق يوضح الاتهامات ويدعو إلى نقاش حول محتواه، مع التركيز على القيمة المعرفية دون الترويج للكاتب كشخصية عامة. هذا الإطار يسمح بالاستفادة من الإنتاج دون إعادة إنتاج الأذى.
أما التفكير في تصميم عدالة تصالحية للتعامل مع قضايا التحرش في سياقنا، حيث تفتقر المجتمعات إلى مؤسسات عدالة موثوقة، يتطلب تصميم أدوات جماعية تتجاوز التقديرات الشخصية.وكما تقترح يسرا عملية تتضمن “فرض قوة” و”خلق مساحة لمراجعة المعتدي”، لكن يحتاج هذا الطرح إلى إطار عملي يعتمد على مبادئ العدالة التصالحية،فرض القوة كإنشاء لجان مجتمعية تتولى التحقيق في الاتهامات، مع تمثيل عادل للناجيات والنساء هذه اللجان يمكن أن تفرض تدابير مثل تعليق المتهم من الأنشطة العامة مؤقتًا حتى تُحل القضية،وتوعية المجتمع بديناميكيات القوة في قضايا التحرش، لتعزيز التضامن مع الناجيات وتقليل الوصم،وخلق مساحة للمراجعة،كتنظيم جلسات حوار بإشراف طرف ثالث محايد، حيث يُطلب من المتهم الاعتراف بالأذى وتقديم اعتذار علني (إذا ثبتت التهمة).
هذه الجلسات يجب أن تُصمم بحيث تحمي الناجيات من إعادة الصدمة. وخلق برامج تدريب للمتهمين على فهم تأثير سلوكياتهم، مع التركيز على تغيير الأنماط السلوكية بدلاً من العقاب.وتوفير خدمات دعم نفسي واجتماعي للناجيات، مثل مجموعات الدعم أو الإرشاد النفسي.كما يغتضي تمكين الناجيات من قيادة تصميم هذه العمليات، لضمان أن تكون مركزية في عملية إصلاح الضرر.
وكما تقترح آرنت أن الشر ليس دائمًا نتيجة نوايا خبيثة، بل قد يكون نتيجة عدم التفكير النقدي والامتثال للأعراف الاجتماعية.أي أن السلوكيات المؤذية قد تكون نتيجة هياكل اجتماعية، مثل الثقافة الأبوية، وليست بالضرورة جوهرية للأفراد.
لكن طرح يسرا يرفض الإقصاء كفعل عنيف لأنه يعزل الأفراد دون إطار إنساني.ومن منظور آرنت، يمكن القول إن الإقصاء يتجاهل إمكانية أن يكون التحرش نتيجة “شر عادي” – أي سلوك متجذر في أعراف اجتماعية لم تُنقد.بدلاً من الإقصاء، يمكن تصميم عمليات تمكن المتهمين من التفكير النقدي في سلوكياتهم، كما تقترح هي، عبر “خلق مساحة للمراجعة”.
وبإنشاء برامج تدريبية في السودان تركز على فهم ديناميكيات القوة في التحرش، مستلهمة من فكرة آرنت بأن التغيير يبدأ بالتفكير النقدي.هذه البرامج يمكن أن تُدار بواسطة منظمات نسوية وتُصمم بحيث تشمل المتهمين في عمليات مراجعة سلوكياتهم، مع حماية الناجيات من إعادة الصدمة.
و تؤكد آرنت على أهمية المسؤولية الجماعية في مواجهة التحديات السياسية والأخلاقية.كما يمكن القول إن المسؤولية لا تقع فقط على المتهم أو الناجية، بل على المجتمع بأسره لخلق بيئة تدعم العدالة والتغيير.وأرى أن التقويم الفردي بشكل مباشر،بربطه بتشتيت الطاقة من تقويم الذات.يمكن إعادة النظر فيه، بأنه يعيق العمل السياسي الجماعي، الذي يتطلب تعاونًا لمواجهة الهياكل الاجتماعية التي تتيح التحرش بحسب آرنت.
وينتقد فوكو الأنظمة العقابية التقليدية، مشيرًا إلى أنها تعزز ديناميكيات القوة بدلاً من إصلاح الضرر.كأدوات تعيد إنتاج الهياكل الأبوية بدلاً من تفكيكها.بدلاً من السجن أو الإقصاء، يمكن تصميم عمليات تركز على إعادة توزيع القوة، كما تقترح عبر “فرض قوة” لمواجهة اختلال القوة في التحرش.
ربما يمكن مواجهة هذا، باستخدام تحذيرات المحتوى وإشراك الناجيات في تصميم عمليات النقاش و في ظل غياب أدلة مادية، قد تثير الاتهامات نزاعات حول العدالة،يمكن للجان التصالحية أن تلعب دورًا في التحقيق بحيادية، مستلهمة من فكرة آرنت عن المسؤولية الجماعية.وفي حالة رفض بعض المتهمين المراجعة،يمكن التفكير في معالجة هذا من خلال تدابير مؤقتة (مثل الحد من المشاركة العامة) مع الاستمرار في تقديم فرص للتغيير.
كما يمكن ربط الأفكار المستوحاة من بارت، آرنت وفوكو بحركات نسوية عالمية،حركة #MeToo،التي أظهرت قوة الإفصاح في تحدي الصمت، لكنها واجهت انتقادات بسبب تحول بعض الاتهامات إلى محاكمات عامة. والاستفادة من هذه التجربة بتطوير آليات إفصاح تحافظ على طابعها السياسي دون الانزلاق إلى العقابية،كحركة #AmINext في جنوب إفريقيا،التي ركزت على بناء شبكات دعم للناجيات، وهو نموذج يمكن تكييفه في السودان من خلال إنشاء مجموعات دعم محلية.
المصادر:
رابط منشور يسرا : https://www.facebook.com/share/p/1DjMyAutSr/
بارت، رولان. (1967). “موت المؤلف”. ترجمة: محمد عناني.
آرنت، حنة. (1958). الوضع البشري. ترجمة: سهيل نجم.
آرنت، حنة. (1963). آيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر. ترجمة: محمد السيد.
فوكو، ميشيل. (1975). المراقبة والعقاب. ترجمة: محمد الأمين.
زيهر، هوارد. (2018). “العدالة التصالحية: نهج لإصلاح الضرر”.
مجلة دراسات العدالة الجنائية.مركز الجزيرة للدراسات. (2020).
“الحراك النسوي في السودان: التحديات والآفاق”. مجلة لباب.
منظمة العفو الدولية. (2021). “العنف الجنسي في السودان: الحاجة إلى آليات دعم للناجيات”.
براون، أدريان. (2019). “تجربة #MeToo: دروس من الحراك النسوي العالمي”. مجلة الدراسات النسوية.
اترك تعليقاً