نحاسات الكبابيش الضائعة

قديماً عندما كانت الثورة المهدية تعادي مصر دائماً وتعتبر المصريين والأتراك معاً الأعداء الأساسيين لها. بينما كان العمود الفقري لإقتصاد الكبابيش يقوم على الإرتباط بمصر تجارياً، لذلك أصبحوا يقاومون الثورة المهدية بكل الوسائل وتتهمهم الأخيرة، من جهتها، بالتخابر لصالح القوى المعادية. لذلك أعدم محمد أحمد المهدي زعيميهم التوم وسالم أولاد فضل الله، من فرع النوراب أهل الشياخة في الكبابيش، في مدينة الأبيِّض في العام ١٨٨٣، وهاجم الخليفه عبد الله القبيلة وخرَّب ديارها واستولى على إبلها. وطورد الشيخ صالح ود فضل الله بلا هوادة، وكان قد تولى شياخة لقبيله بعد مقتل أخويه.

رفض الشيخ صالح استدعاءات الخليفة المتكررة له للحضور لأمدرمان وأضطر الى الاختباء من فِرق الخليفه عبد الله التي أرسلت في طلبه، فاصبح يتنقل بين ديار الكبابيش حيث يوفر له أهلها أمكان اختباء بعيدة عن متناول أيدي الذين يدأبون في طلبه.

 إلى أن انتهى إلى علم الخليفة أن الشيخ المراوغ قد استقر في عدد قليل من أتباعه في منطقة نائية في الشمال ديار الكبابيش تُسمى الصافية، وهي مجموعة من الآبار في الشمال الأقصى من كردفان بالقرب من دنقله، فأرسل المهدويون بقوات من الأنصار لاحضاره الى أمدرمان أو إحضار رأسه وحدها دون بقية جسده لو دعا الأمر.

أحكمت القوة المرسلة من التعايشي عليه الطوق في مجموعة تلال، قريبة من الآبار، كان يتحصن فيها الشيخ، قرر أن يواجه مصيره في شجاعة كما فعل أخواه من قبل ويقاوم لآخر رمق، ولكن كان هناك أمر واحد يشغل باله أكثر من تفكيره في مصيره الشخصي ومصير أتباعه القلائل الذين رافقوه في هذه الظروف الصعبة.

كان الشيخ صالح يتنقل بين بيوتات الكبابيش المختلفة مصطحباً معه نحاسات القبيلة ثلاثة: واحدة كبيرة، واثنتان أصغر منها.

كانت هذه النحاسات معه في التلال القريبة من آبار الصافية حيث يتحصن. وعندما تيقن أن الصباح سيشهد المعركة الفاصلة غير المكافئة بينه وبين جموع الأنصار الذين ضيقوا عليه الخناق، نادي اثنين من أخلص أتباعه في ذلك الليل البهيم وقام بأخذ النحاسات ونزل بها من تلك التلة وقام بدفنها، بعد أن أمن عيون الرقباء، بحرص تحت الرمال التي تحيط بالمكان في هدئة ذلك الليل. وكان حريصاً أن يتم ذلك في أضيق نطاق من المرافقين حتى ان لا يشعر الآخرون الذين معه في الجبل بالمكان الذي دفنت فيه هذه النحاسات، فيعترفون بمكانها إذا عذبهم المهدويون لاحقاً ويضيع نحاس القبيلة ويستولي عليه الأنصار وتفقد القبيلة هيبتها إلى الأبد بين القبائل. لأن بين عربان السودان في ذلك الوقت، لم يكن يوجد عار أكبر من يقال أن قبيلتك قد أستولى الآخرون على نحاسها.

في الصباح يوم ١٧ مايو ١٨٨٧م، هجم الأنصار كما كان متوقعاً، على الشيخ صالح ود فضل الله ومرافقيه ودارت بينهم معركة شرسة عرضوا عليه، في أثنائها، أن يستسلم، باعتبار أن معركته خاسرة، فرفض وواصل القتال إلى أن تم القبض عليه، بعد أن قُتل معظم أتباعه. حاول المهدويون استنطاق الشيخ لمعرفة المكان الذي أخفى فيه النحاسات فأبى إباءً شديداً وواصل الشيخ تحدي آسريه بلعنهم وشتم المهدي والمهدية والخليفة أمامهم وأظهر شجاعةً كبيرةً عندما هموا بقطع راسه، لم يظهر عليه الخوف على الإطلاق، فقتل، رحمه الله، ودفن في تلك البقاع وأخذ راسه الى أمدرمان حيث عُلق بالقرب من المسجد الكبير فيها ليكون عظةً لمن تحدثه نفسه بالتمرد على سلطة الخليفة.

بقيت نحاسات الكبابيش لمدة 41 عام حيث دفنها الشيخ صالح تحت تلك التلة في قفرٍ لا يعلمه أحد، فقد كان كل من يعرف مكانها قد قتل. وبعد انتهاء المهدية ومجيء الحكم الثنائي في العام ١٨٩٨، حاول الناظر على التوم، شيخ الكبابيش الجديد من نفس الأسرة، البحث عن النحاسات المفقودة ومعرفة مكانها بكل السبل في غير جدوى. ومرت السنون يقفو بعضها بعضاً ويئس أغلب الناس من العثور عليها وظنوا أنها ضاعت للأبد.

في إحدى أيام صيف العام ١٩٢٨ كان أعرابياً فقيراً من الكبابيش يرعى غنمه ذات نهار قائظ قرب إحدى التلال في منطقة الصافية، وبينما كان مستغرقاً في تأملاته الخاصة في تلك السهوب المقفرة، ما راعه إلا أن لاحظ لمعاناً لجسم معدني في حافة إحد الخيران القريبة من التلة الرئيسية التي أمامه. فأناخ راحلته ونزل عنها لينظر هذه القطعة المعدنية النحاسية الغريبة في ذلك المكان بعد أن لوحتها الشمس وصقلتها التعرية وجعل يحفر حولها فبدت له كبيرةً يختفي معظمها تحت الرمال، وبعد أن واصل الحفر عرف أنه وقع للتو على هيكل نحاسي ضخم، وبدأ يحدث نفسه أن هذا الشيء ربما كان نحاس الكبابيش الذي طالما بحث عنه الجميع ويئسوا منه. واصل الحفر، وهو في غمرة سروره، إلى أن استخرجه كاملاً، فتيقن أنه النحاس المفقود. ثم حفر حوله بجد مرةً اخرى فوجد هيكلين لنحاسين آخرين دفنا معه في ذات الحفرة تقريباً. وتيقن أنه عثر على شيء لا يقدر بثمن: نحاسات الكبابيش التي ضاعت لعقود والتي كان الجميع يتحدثون ويبحثون عنها.

أخذ الأعرابي الهياكل المعدنية إلى فرجة في تلك التلة وبالغ في إخفائها بالرمل والصخر ونباتات الصحراء المهملة، وانطلق من فوره لبيته ومن هناك لجبرة الشيخ: حيث سكن الناظر علي التوم، شيخ الكبابيش.

دخل الأعرابي على الناظر الكبير ووجده في جمع من رجالات الكبابيش، وعندما صمتوا مما كانوا بسبيله من حديث، وقف الأعرابي وقال، في صوتٍ واثق، موجهاً السؤال للشيخ:

-“يا شيخ، ما هي مكافأة من يعثر على نحاسات القبيلة؟”.

 فرد الشيخ من فوره وهو ينظر إلى الأعرابي في حزم:” يستحق ١٠٠ ناقة بكرة وخمسة فحول تُلوب”. فقال الأعرابي من فوره للشيخ بجدية ظاهره:

-“أنا أدلكم على مكانها فأرسلون”. وأخبر الجمع بالقصة كاملة، فانطلق معه صباح الغد جمعٌ من كبار القوم، فيهم أخ الشيخ على التوم، ميممين آبار الصافية، وهناك دلهم الأعرابي على مكان الكنز الثمين فاستخرجوه وهم في غامر الفرح والحماس. وعندما وصلت النحاسات جبرةَ الشيخ نحرت الأبل وأقيمت الولائم وحضر الأعراب من البوادي زرافات ووحداناً ليروا النحاسات التي ضاعت لأربعة عقود من الزمان. وتم استدعاء حداد حاذق من الأبيِّض ليقوم باصلاحها وتنظيفها تجهيزاً لتجليدها الذي تم في احتفال ضخم. أما الأعرابي، فقد انطلق إلى باديته ومعه مائة من النوق مع فحولهن بعد أن جعلت منه الأقدار ليس غنياً فحسب، بل وجيهاً مباركاً من وجهاء البادية، فقد عرف بالبدوي الذي وجد صوت الحرب للقبيلة، والقبيلة تُبارك حروبها بالقرع على الطبول النحاسية.

منقول المقال من الكاتب: غفاري فضل الله


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *