ناجٍ من الأسر

·

·

,
بداية الألم

اُعتُقِلتُ بوشاية وعايشتُ مأساة لا توصف، كانت مصائد الموت بعينها، لكن العناية الإلهية كانت تتدخل دائمًا. الإنسان حينما يطبق القانون يسمو على الحيوان، لكن في حالتنا اختلط الحابل بالنابل، وأدركتُ الفرق بين الواقع والشعارات الحقوقية.

اُعتُقِل “محمد حسن” (وهو اسم مستعار) من بيته بأمدرمان، الثورة، الحارة “14”، في السابع من أغسطس/آب من عام 2023 بسبب وشاية فحواها أنه ينتمي إلى الجيش، طالما أنه أستاذٌ في أكاديمية نميري العسكرية.

بدأت مرحلة الحبس في غرف ضيقة بمدينة النخيل في أم درمان، أولى محطات الأسر، حيث كانت الغرفة التي تبلغ مساحتها (5×5 أمتار) تضم 40 أسيرًا. كنا نقضي حاجاتنا الإنسانية (التبول وغيره) داخل تلك الغرفة في جرادل بلاستيكية. بعد ذلك، جاءت مرحلة التعذيب بخراطيم المياه (خرطوش مقاس 3/4)؛ كانوا يضربوننا به، بل وفي أحيانٍ كثيرة كان يتم ضربنا في أماكن حساسة من الجسد، وذلك دون أن نجد أدنى مقومات الرعاية الطبية والعلاج. فمنّا من حسبناه شهيدًا، ومنّا من فقد عقله وأصيب بالجنون، ومنّا من لازمه المرض حتى بعد خروجه من المعتقل، كحالتي.

خلقت الحرب واقعًا قاسيًا، حيث تم اعتقال الآلاف في معتقلات الجيش بذريعة انتمائهم إلى قوات الدعم السريع، بينما تحتجز الأخيرة أسرى بالذريعة ذاتها أو بدافع الحصول على فدية مالية من ذويهم. فيموت البعض لأن أهلهم معدمون، وتتلاشى حياتهم وتنتهي قصصهم كصرخة في ظلام دامس.

“سجن سوبا: معتقل لتكميم الأفواه”

يقع سجن سوبا بالعاصمة الخرطوم، وهو أحد السجون الرئيسية المكتظة، حيث يُبلَّغ عن ظروف قاسية داخله، كنقص الموارد وضعف أنظمة الرعاية الصحية. كما يُعد سجن سوبا أحد مواقع احتجاز المعارضين السياسيين والنشطاء، مما يثير مخاوف بشأن حرية التعبير وحقوق الإنسان.

“مبادرات دولية تطفو على السطح”

أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر سراح عدد من الأسرى في يناير 2024، حيث نُقلوا إلى ود مدني بناءً على طلب طرفي النزاع. إن اتفاقيات جنيف الأربع واتفاقية روما، التي تنص على حماية حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، لم تذهب سدىً، إذ تم أيضًا تسليم 70 أسيرًا كانوا في قبضة قوات الدعم السريع بولاية جنوب دارفور، وذلك بإشراف من اللجنة الدولية.

مكثتُ تسعة أشهر لم تكن أسرتي الصغيرة ولا والدتي يعرفون خلالها مكاني. كنت أرسل لهم قصاصات ورقية مع الزوار، ولحسن الحظ، وقعت إحداها في يد أحد معارفي الذي أخبر أسرتي بمكاني، فبدأت المراسلات بحمد الله. أُطلق سراحي مقابل فدية “مليارية”، وخرجت أحبو كالطفل. وقد فقدتُ السمع في أذني اليسرى، كما عرضتُ نفسي على أخصائي أمراض جلدية وتناسلية، لأنهم كانوا يضربوننا في مناطق حساسة. ووُضِعَ لي برنامجٌ غذائيٌ معين. وكنت حزينًا لأن أحد معارفي مات كمدًا بعد تعرضه لاعتداء جنسي.

وفي تصريح يعكس سوداوية الوضع، صرحت آليونا سينينكو من اللجنة الدولية للصليب الأحمر: “يجب توفير الضمانات الأمنية، فمن دون المياه الصالحة للشرب ومن دون التيار الكهربائي، نحاول في هذه الظروف المواكبة، ونحتاج إلى الضمانات الأمنية، ونتابع الأوضاع عن كثب ونقوم بتنسيق عملنا مع الأطراف على الأرض ومع شتى الوكالات الدولية”.

أبالسةٌ تلبّسهم شيطان السلطة، في حرب لا ترحم. ولن تدرك الخطر حتى ترى التابوت. وطُبّق المثل السوداني القائل: “جلد ما جلدك جر فيه الشوك” بحذافيره. فالأسر خياران: إما الموت أو عاهة مستدامة وندوب لا تُشفى. وها هو “حسن محمد” يقضي أيامه في العيادات الخارجية، فقد تركزت كميات كبيرة من الأملاح في جسده والتهبت قدماه حرارةً. لكنه يحمد ربه على أن حاله ميسور، ويشفق على من ضمرت ضلوعهم نتاج سوء التغذية الحاد، والحال يغني عن السؤال. لم تكن الحظوظ واحدة، ولم تحظَ قضية الأسرى بالاهتمام المطلوب، لأن رحى الحرب قد طحنت الأخضر واليابس. إن العذابات النفسية هي أشد ويلات النزاعات المسلحة أثرًا. فيا ترى، كم في البلاد من فظاعات كهذه؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *