ميدان الحرية في الأبيض: الفضاء كإرادةٍ ووعيٍ جمعيّ

·

·

,

للكاتب : محمد ودالسك

في قلب مدينة الأبيض، تشكّل “ميدان الحرية” كمفهومٍ يتجاوز جغرافيته المادية ليصبح امتدادًا للوعي الثوري، وشهادةً على مقاومة المدينة للهيمنة القسرية.كفعلٌ رمزيّ يكشف عن الصراع بين الإرادة الشعبية ومنطق السلطة. هذا الصراع، الذي ظهر بوضوحٍ في ثورة ديسمبر، كان صراعًا سياسياً وحول المعاني والدلالات التي تحكم الفضاء العام.

الميدان كإعادة إنتاج للمدينة

تُعرَفُ المدنُ بتغيراتها المستمرة، وكما تأتي تحولاتٌ كنتيجةٍ طبيعيةٍ لامتداد العمران أو تبدّل أنماط العيش،كذلك تتخلق كفعلٍ واعٍ تُمارسه الجماعة لنحت هويةٍ جديدةٍ للمكان.و ميدان الحرية في الأبيض نموذجٌ لهذه العملية، تجسيدًا لفعلٍ جمعيّ قرر أن يعيد إنتاج معاني الفضاء.

إذا كان المكان وفق التصورات الفلسفية التقليدية مجرد مسرحٍ للأحداث، فإن الفضاء المُعاش في سياقات المقاومة يتحول إلى بُنيةٍ ديناميكيةٍ تتجاوز المحددات المادية، ليصبح الفعل الثوري جزءًا من تكوينه.و في ثورة ديسمبر، وتلك الشوارع والميادين التي تحولت لنقاط تجمع الثوار/الثائرات، صارت أيضاً فضاءاتٍ لإعادة اكتشاف الذات الجماعية، وتأكيد حق الناس في امتلاك المجال العام.

عسكرة الفضاء ومحاولة الهيمنة الرمزية

مع اندلاع الحرب في السودان، أُعيدَ تشكيل الفضاء العام بعسكرة المدينة، حيث تحولت الساحات المفتوحة إلى مناطق خاضعةٍ للرقابة الأمنية وابتلع المدينة الخندق الكبير للجنود، وتراجعت إمكانية الحراك الحرّ داخلها. لكن رغم السيطرة العسكرية، بقي ميدان الحرية متجذرًا في الوعي الجمعي. هذه المقاومة الرمزية تكشف أن الهيمنة على المكان تتحقق عبر الاحتلال المادي و تستدعي معه إخضاع الذاكرة الجماعية وتفكيك دلالاتها.

من هنا، نفهم أن الصراع حول ميدان الحرية هو تنازعٌ بين خطاباتٍ متعارضةٍ حول هوية الفضاء ومعناه. السلطة، حين تحاول محو أثر الحراك الشعبي، تقوم بنشر الجنود وتسعى لإعادة تشكيل السردية المرتبطة بالمكان. ومع ذلك، ظلّ اسم “ميدان الحرية” عصيًا على الطمس، لأن الذاكرة الشعبية تستمد شرعيتها من التجربة الحية ولا تشكلها القرارات السلطوية.

الاسم كفعل مقاومةٍ ضد النسيان

اللغةُ  في كثيرٍ من الأحيان أداةٌ لصناعة الواقع.و تسمية “ميدان الحرية” كانت فعلًا لغويًا مقاومًا، فالتسمية تعبيرٌ عن إدراك الناس لعلاقتهم بالمكان.و من هذا المنظور، يمكن فهم التسمية كجزءٍ من إستراتيجيةٍ مقاومةٍ للطمس والتجريف، حيث ظلّ الميدان محتفظًا باسمه في الأحاديث اليومية، وفي استدعاءات الذاكرة، وفي استمرارية الارتباط الوجداني بالمكان.

وإذا كانت السلطة تستخدم إعادة التسمية كأداةٍ لإعادة هيكلة الفضاء وفق منطقها، فإن الجماعة الثورية استخدمت الفعل نفسه بطريقةٍ مضادة، حيث كان إطلاق اسم “ميدان الحرية” إعلانًا عن استعادة المجال العام. بعبارةٍ أخرى، لم يُطلق الاسم ليصف المكان، بل ليصنعه.

المكان، الذاكرة، والاستمرارية الثورية

الفضاءات التي تحتفظ برمزيتها رغم القمع تكشف عن طبيعة العلاقة بين المكان والذاكرة. والمكان وعاءٌ المعاني،خزانٌ للخبرات التاريخية. لذا، فإن التمسك باسم “ميدان الحرية” رغم عسكرة المدينة يشير إلى أن التحولات الثورية تمتد إلى مستوياتٍ أعمق، حيث يصبح الفضاء نفسه أداةً لمقاومة النسيان.

فالمقاومة هنا تتجلى  في القدرة على الحفاظ على رمزية المكان كدليلٍ على استمرار الوعي الثوري. وميدان الحرية كنقطة التقاءٍ للثوار، كان وما زال، ذاكرةً جمعيةً تُبقي الثورة حاضرةً في الحياة اليومية، حتى في ظل محاولات الإخضاع القسري.

ميدان الحرية كإرادة لا تُقهر

رغم محاولات العسكرة، يمثل بحرفية الثوار المهرة تعبيرًا عن إرادة جماعيةٍ تتحدى السلطة على مستوى الذاكرة واللغة والفضاء. وهكذا، فإن المعركة حول المكان هي صراعٌ أعمق بين من يسعى لطمس المعاني التي صنعها الناس، ومن يتمسك بها كجزءٍ من هويته الثورية.وما يجعل ميدان الحرية حاضرًا في الوعي هو استمرار فعل التسمية كجزءٍ من مقاومةٍ لا تتوقف، مقاومةٍ تدرك أن المكان  هو آخر معاقل الحرية حين تضيق الخيارات الأخرى.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *