موسيقى الزار والبلوز

كل من موسيقا الزار والبلوز، يمكن اعتبارهما “موسيقى الحال” أو “موسيقى الروح”، حيث أن كليهما نشأ لتلبية حاجة وجدانية وروحية عميقة لمجتمعات عانت من الضغوط والتهميش. ورغم هذا التشابه في المنطلق، فقد تطور كل منهما في مسار موسيقي مختلف تمامًا.

يتفقان في كونهما ينبعان من تقاليد موسيقية أفريقية، خاصة في أهمية الإيقاع كعنصر أساسي، واستخدام التكرار لبناء حالة شعورية، ونمط النداء والاستجابة (Call and Response)، الذي يظهر في الزار بين المغنية الرئيسية (الشيخة) والمجموعة، وفي البلوز بين المغني وآلته الموسيقية.

كلا منهما هجين ومتكيف يتحرك في مساحات فعندما وصل السودان “أسقط ألحانه الأصلية” وتبنى السلم الخماسي المحلي (بإفتراض مصدرية خارجية)

وبالمثل، البلوز هو نتاج تهجين بين التقاليد الأفريقية والعناصر الموسيقية الأوروبية (مثل الهارموني واستخدام الغيتار).

الهدف النهائي لموسيقى الزار هو إحداث حالة “الانجذاب” وحلول، وهي حالة وجدانية عميقة تصل إلى درجة الغياب عن الوعي أو الوعي المغاير. وهذه الحالة ليست للتعبير عن الذات، بل لإفساح المجال لروح أو “سيد” آخر ليتلبس الجسد. إنها عملية “إخلاء” للذات الفردية ليحل محلها كائن روحي آخر بهدف العلاج أو تحقيق التوازن. الروحانية هنا طقوسية، عملية، وهدفها محدد مسبقًا: التواصل مع العالم الآخر.

الحالة الروحانية في البلوز هي “التطهير” أو “التنفيس” هي ليست غيابًا عن الوعي، بل على العكس، هي وعي حاد ومؤلم أحيانًا بالظروف الشخصية (الفقر، الظلم، الحب المفقود).

الهدف هو التعبير عن هذه المشاعر العميقة وتحويلها إلى فن، مما يخلق إحساسًا بالتحرر والمشاركة الوجدانية مع المستمعين. الروحانية هنا إنسانية ووجودية. هي لا تسعى للتواصل مع الأرواح، بل تسعى لتأكيد صمود الروح البشرية في وجه المعاناة.

نجد أن الزار :  قدم منصة تعبيرية، خصوصًا للنساء، في مجتمعات ذكورية تقليدية. الطقس نفسه، بحركاته العنيفة وصخبه، هو شكل من أشكال التمرد على القيود المفروضة على الجسد والسلوك في الحياة اليومية.

  البلوز: هو الصوت الصريح للطبقة الأمريكية-الأفريقية المسحوقة في جنوب أمريكا. تحدث عن كل ما كان من الصعب أو الخطر قوله مباشرة: الظلم، العمل الشاق، عنف الشرطة، الخيانة، والفقر. كان وسيلة لتوثيق التجربة الإنسانية من منظور المقهورين.

وفي العلاقة مع السلطة المهيمنة


الزار: غالبًا ما واجه الزار نظرة سلبية من المؤسسات الدينية الرسمية التي اعتبرته نوعًا من الشعوذة أو البدع، ومن بعض الطبقات الاجتماعية التي رأته ممارسة متخلفة.

البلوز: واجه عداءً عنيفًا من المؤسسات الدينية المحافظة التي أطلقت عليه “موسيقى الشيطان” (The Devil’s Music)، ومن السلطات البيضاء التي رأته كفن “بدائي” ومثير للقلاقل.

الأصل والنشأة التاريخية

يظهر الزار كطقوس علاجية روحانية قديمة، يُعتقد أن أصولها من القرن الأفريقي (إثيوبيا). انتشرت في منطقة حزام السودان الأفريقي وتكيفت مع الثقافة المحلية. مرتبطة بتاريخ طويل من المعتقدات الروحانية الأفريقية.

نشأت موسيقى البلوز في أواخر القرن التاسع عشر في جنوب الولايات المتحدة بين الأمريكيين من أصل أفريقي. تطورت من أغاني العمل (Work Songs) والأناشيد الروحية (Spirituals) كشكل من أشكال التعبير عن المعاناة والصمود بعد عصر العبودية.

الوظيفة

تعتبر موسيقى الزار : وظيفية-طقوسية. الهدف الأساسي هو إحداث حالة “الانجذاب” أو الوجد  لاستحضار روح أو “سيد” معين بهدف العلاج أو تحقيق توازن روحي. الموسيقى وسيلة وليست غاية.

بينما موسيقى البلوز : وظيفية-تعبيرية. الهدف هو التنفيس عن المشاعر الشخصية والجماعية (الحزن، الفقد، الظلم، وأيضًا الحب والأمل). هي وسيلة لسرد القصص والتعليق الاجتماعي والترفيه.

السلم الموسيقي

تنتمي موسيقى الزار الى السلم الخماسي و لا أثر فيه لأنصاف الأبعاد” هذا يعطيه طابعاً أفريقياً-سودانياً واضحاً ومستقراً.

بينما، سلم البلوز. هو سلم هجين فريد من نوعه. يحتوي على “النوتات الزرقاء” (Blue Notes)، وهي أنصاف أبعاد (semitones) تُعزف بشكل متعمد لخلق توتر وتعبير حزين (الدرجة الثالثة والخامسة والسابعة المخفوضة).

اللحن والبنية

اللحن في موسيقى الزار مقتضب، دائري، وتكراري. يتكون من جمل لحنية قصيرة جداً (“نداء”) تُعاد باستمرار. الألحان متشابهة وتعتبر “تنويعات للحن واحد”، مع قفزات لحنية محدودة (نادراً ما تتعدى الرابعة).

بينما البلوز تتميز ببنية محددة (AAB). غالبًا ما تتبع الأغنية بنية شعرية من ثلاثة أسطر (السطر الأول يُعاد، ثم يأتي السطر الثالث)، وتتكرر هذه البنية على “دورة البلوز ذات الـ 12 وحدة” (12-Bar Progression) الهارمونية.

الإيقاع

الإيقاع في موسيقى الزار عنصري وحيوي. يوصف في المقال بأنه “صاخب” ويصاحبه “رقص عنيف”. الإيقاع هو المحرك الرئيسي للوصول إلى حالة الانجذاب.

بينما البلوز تتميز بالتأرجح (Swing/Shuffle). يتميز بإحساس إيقاعي غير مستقيم، مما يعطيه شعوراً بالتمايل والاسترخاء، حتى في أكثر لحظاته حزناً.

الأداء والتعبير

في الزار يوجد أداء جماعي. وهو جزء من طقس متكامل يشمل الملابس والبخور والحركة. الهدف هو فقدان الوعي الفردي والاندماج في الحالة الروحية للجماعة.

في البلوز : فردي وارتجالي. يتمحور حول العازف أو المغني الذي يعبر عن مشاعره الشخصية. الأداء مليء بالتقنيات التعبيرية مثل “تحريف” الأوتار (Bending) والاهتزاز الصوتي (Vibrato).

تشكل الموسيقى أو بالأحرى يشكل الغناء أحد الجوانب الهامة في طقوس الزار، فبعد سلسلة قد تطول من الإعداد والتجهيز تتوج طقوس الزار بالغناء والرقص وفي خضم الإيقاعات الصاخبة والغناء والرقص العنيف تحدث تلك الحالة التي يسميها شيوخ الزار بالانجذاب، فهل كانت ذروة الانفعال هذه ممكنة الحدوث بدون ذلك الغناء وتلك الإيقاعات؟ وما هي الخصائص الفنية العامة لأغاني وإيقاعات الزار؟

أغاني الزار

إن أول ما يلفت نظر الدارس لهذه الموسيقى الغنائية هو صيغها المقتضبة واعتمادها على التكرار والإعادة المستمرة، وإن أقصر تلك الأغاني تمنحنا اكتفاء فنيا كجملة موسيقية كاملة، فهي ذات بداية واضحة وتسلسل لحني معقول وخاتمة، وإن مثل هذه الجملة الموسيقية عادةً ما تتخذ أساساً لعمل غنائي أو موسيقي. لا تكون مثل هذه الأغاني مستقلة إلا في سياق طقس ما أو نشاط ما ، فهى تذكرنا بالأغاني المصاحبة للعمل في مجالات تحميل وتفريغ السفن والشاحنات أو التجديف حيث تتخذ كعنصر يساعد على الترويح عن النفس وضبط الحركة الجماعية والتخفيف من الجهد البدني دون أن تكون هي ذاتها موضوعاً للاستغراق الوجداني. وقد يحدث غير هذا بالنسبة لبعض الأذكار الدينية المنغمة التي تتخذ التكرار وسيلة لتعميق الإحساس الديني ووظيفة أغنية الزار أقرب إلى هذه الأخيرة. نستعرض أدناه بعض تلك الأغنيات القصيرة.

أغنية (يورو باشا) لا يتعدى أداؤها العشرة ثواني. بينما أغنية (ديكو الليلة) تتكون من ثمانية حقول موسيقية (موازير) ولا يتعدى طولها العشرة ثواني. أغنية السيد (أحمد البدوي) طويلة ككل الأغاني العربية وتتكون من جزأين في كل جزء منها ثمانية حقول وقد تودى في دقيقة كاملة.

لماذا هذا الاختصار؟ إن أغنية الزار هي نداء لشخص أو روح أو شيء ما، تم الاستعداد للتقمص بالملابس والإكسسوارات والطقوس، لهذا يستمر النداء القصير إلى أن يحدث الانجذاب.

يلفت النظر أيضاً في أغنيات الزار تشابه ألحانها، فلا يعدو بعضها أن يكون تنويعات للحن واحد Variations ولا تكاد الألحان أن تختلف عن بعضها إلا باختلاف الكلمات وما تقتضيه من تحوير في اللحن، وكلها أغنيات سهلة الألحان تتكون من ميلوديات غنائية بها ميل إلى استخدام الأبعاد القريبة مثل بعد (الأولى) و(الثانية) و(الثالثة) وقليلاً ما نجد قفزات تتعدى (الرابعة). أغاني الزار التي تغنى في السودان خماسية تماماً (pentatonic) ولا أثر فيها لأنصاف الأبعاد، حتى أغنية (الشيخ البدوي ) فأنغامها خماسية، وإذا كان هنالك مايشي بأصلها فهو ذلك الميل للتطريب في بعض أجزائها وتفخيم الحروف الذي تتعمده المغنية والإيقاع الذي يذكرنا بالزفة المصرية.

معظم أغنيات الزار دائرية تتكون من لحن يتكرر بصورة مستمرة، لكن بعضها يبدأ بتمهيد قصير يشبه (الرمية) التي تبدأ بها بعض الأغاني التقليدية السودانية، كما أن لبعضها خاتمة تردد مستقلة قبيل انتهاء الأغنية وهي أقرب لما ظل يعرف في الغناء العام (بالكسرة ) الخفيفة.

تذكرنا أغاني الزار أيضاً بأغاني التم تم التي سادت في الأربعينيات، كما تذكرنا ببعض مقاطع أغاني ما زالت تبثها الإذاعة، أو لعل تلك الأغاني قد استعارت موسيقاتها من الزار، لكن تظل أغنية الزار السودانية خماسية أياً كان موضوعها.

فإذا كانت تقاليد الزار فيما يخص الطقوس والأزياء قد جاءت من مصادرها وتطورت عبر زمن طويل، فإن الزمن أيضاً هو الذي ساعد في تساقط ألحانها الأصلية لعدم توافقها مع النظام النغمي الخماسي، وفي إلباس موضوعات الزار للألحان السودانية المعروفة اليوم والتي عن طريقها إلى جانب اللغة – يستطيع المرء تمييز أغنية الزار السودانية. وبالمثل فإن أغنية الزار الحبشية أو المصرية يمكن تمييزها أيضاً وفق معايير موسيقية تعتمد على السمات اللحنية والإيقاعية التي تسم غناء كل بلد.

وجه المقارنة الموسيقية

الزار

سلم صول الكبير (G Major Diatonic Scale).
يتكون من 7 نغمات ثابتة: (صول-لا-سي-دو-ري-مي-فا#).

البلوز

موسيقى البلوز هي لغة موسيقية فريدة أنشأها الأمريكيون من أصل أفريقي. “تكسر” هذه الموسيقى قواعد السلالم الغربية عمدًا باستخدام “النوتات الزرقاء” والإيقاع المتأرجح لخلق قاموس صوتي قادر على التعبير عن تجربة إنسانية معقدة من الألم والمعاناة والصمود.

سلم البلوز (Blues Scale).
هو سلم خاص غالبًا ما يكون سداسي النغمات، ويحتوي على “النوتات الزرقاء” (Blue Notes). في سلم صول البلوز، تكون النغمات: (صول – سي – دو – دو# – ري – فا).

الطابع النغمي والنوتات الزرقاء (Blue Notes)

الزار يتميز بأنه مشرق ومستقر. و لا يحتوي على أي “نوتات زرقاء”. استخدام نوتة “سي” الطبيعية و”فا#” يعطيه طابعًا سعيدًا أو حياديًا.

البلوز حزين ومعبّر. و يتميز بوجود “النوتات الزرقاء” وهي نغمات تُعزف أو تُغنى بدرجة صوتية منخفضة قليلاً عن السلم الكبير لتعطي إحساسًا بالأسى والتوتر. في سلم صول، هذه النوتات هي سي بيمول (Bb) وفا طبيعية (F)، بالإضافة إلى دو شارب (C#). هذه النغمات هي روح البلوز.

الزار به الإحساس الإيقاعي (Rhythmic Feel) إيقاع مستقيم (Straight Rhythm) و يتم عزف النغمات بقيمتها الزمنية تمامًا كما هي مكتوبة.

البلوز به إيقاع متأرجح (Swing/Shuffle Rhythm). هو إحساس إيقاعي غير متساوٍ، حيث يتم عزف أول نوتة في التقسيم الزمني أطول قليلاً من الثانية، مما يعطي إحساسًا بالتمايل أو “الأرجحة”. هذا الإيقاع هو سمة أساسية للبلوز والجاز.

الزار من ناحية الهارموني والتآلفات (Harmony) مجرد خط لحني بسيط بدون هارموني واضح.

البلوز يعتمد بشكل أساسي على تتابع كوردات شهير يسمى “دورة البلوز ذات الـ 12 وحدة” (12-Bar Blues Progression)، والتي تستخدم الكوردات الأساسية (I, IV, V) في السلم، وغالباً ما تكون كوردات سابعة (Dominant 7th chords).

الغاية التعبيرية والأداء

الزار به لحن ثابت ومكتوب بدقة للتمرين أو كجزء من أغنية شعبية بسيطة.

البلوز به موسيقى تعبيرية وارتجالية بالدرجة الأولى. عازف البلوز يقوم “بتحريف” النغمات (bending) والتلاعب باللحن للتعبير عن مشاعر عميقة كالحزن والأمل والتحدي.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *