نتناول في هذا المقال تدوينات الرحالة الإنجليزي (وادينغتون)
الرحالةُ الإنجليزي «وادينغتون» عن معركة كورتي – كتاب النيل الأزرق – تأليف: آلان مورهيد. ترجمة: د.إبراهيم عباس أبو الريش. دار النشر : دار بدوي.
وعندما تقدّمت حملة إسماعيل باشا مع انحناءة النيل بالقرب من كورتي، ودخلت الحملة منطقة الشايقية، ظهر بعض رجال القبائل المتحفزين ليناجزوا المعتدين القتال. وحاول إسماعيل أن يدخل معهم في مفاوضات، فأقنعهم بأن يرسلوا وفدًا من مشايخهم ومقدّميهم لمقابلته. وعندما حضر الوفد، أخبرهم بأن والده يرغب في أن ينصرفوا جميعًا إلى فلاحة الأرض والعناية بها، وأنه لن يفرض عليهم إلا شيئًا تافهًا من الجزية إذا ما سلّموا سلاحهم وخيلهم.
ويقول إنجلش إن المحادثات سارت على النحو التالي:
الشايقية: لماذا هذا الغزو لبلادنا؟
إسماعيل: لأنكم نهابون.
الشايقية: ولكن ليس لنا مورد رزق خلاف ذلك.
إسماعيل: يجب عليكم أن تزرعوا الأرض.
الشايقية: لقد نشأنا على ما تسميه بالنهيب، ولا يمكننا أن نقوم بأي عملٍ آخر.
إسماعيل: إذن فسأُكرهكم عليه!
وهنا توقفت المفاوضات، فأرسل إسماعيل مائة فارس من البدو لاستكشاف بلاد العدو. فما كادوا يبتعدون عن كورتي حتى اشتبك معهم الشايقية في معركة لم يعد منها أحد إلى خطوط الأتراك، إلا خمسةً وعشرين فارسًا فقط.
وفي مساء الثالث من نوفمبر، احتشد الجيشان في سهلٍ متسعٍ على الضفة الغربية للنيل، إلى الجنوب من كورتي بقليل. وارتكب الشايقية أكبر غلطة في أنهم لم يهاجموا في الظلام، حيث تكون سيوفهم ورماحهم أشد فتكًا من الأسلحة النارية.
“المعركة التي دارت في الرابع من نوفمبر 1821 كانت شيئًا رهيبًا محزنًا، تقرّر على ضوئها، كما يقول البروفيسور دو دول، مصير السودان للمائة سنة التالية!.”
والمعركة التي دارت في الرابع من نوفمبر 1821 كانت شيئًا رهيبًا محزنًا، وكان في إمكاننا أن نصرف النظر عنها كغيرها من المعارك الرهيبة، باعتبارها مذبحة أخرى قضت على رجالٍ عُزّل. نعم، كان في إمكاننا أن نصرف النظر عنها، لولا أنها، كواقعة الأهرامات، تمخضت عن نتائج بعيدة الأثر، فقد كانت خاتمة عهدٍ في مناطق النيل العليا، تقرّر على ضوئها، كما يقول البروفيسور دو دول، مصير السودان للمائة سنة التالية.

وصَدرت إشارة الهجوم للشايقية من فتاة صغيرة تُدعى مهيرة بنت عبود، كانت على ظهر بعيرٍ محلى بأفخر زينة، فأطلقت زغرودةً مجلجلة، اندفعت على إثرها حشودٌ هائلة من القرويين العُزّل، فحملوا على الأتراك حملة رجلٍ واحد تحت سحابةٍ مظلمة من الغبار. وقيل إن مشعوذًا كان قد أكّد لهم أن رصاص البنادق لن يخترق أجساد المؤمنين الذين حسن إيمانهم، ولذلك فقد كانوا يحملون معهم السلب والحبال ليقتادوا بها أسرى الأتراك.
“أتى من خلف هؤلاء المشاة نحو ألف فارس بدفوفهم وطبولهم، وهم يصيحون في تهكم: “سلام عليكم”
وأتى من خلف هؤلاء المشاة نحو ألف فارس بدفوفهم وطبولهم، وهم يصيحون في تهكم: “سلام عليكم”. ومن الغريب أن يتمكن الشايقية في البداية من اختراق صفوف الأتراك وإحراز بعض التقدم، فقد كانوا أمهر من الأتراك في استعمال السيوف. إلا أن الأتراك لجؤوا إلى بنادقهم وغداراتهم، وقبل غروب الشمس كان كل شيء قد انتهى، وتقهقر الشايقية تاركين نحو ثمانمائة قتيلٍ في ميدان المعركة، فتهافت عليهم الأتراك يقطعون آذانهم، في وحشيةٍ تشمئز لها النفوس.
وقال وادنجتون، الذي أتى إلى ساحة القتال بعد انتهاء المعركة، إن وجوه القتلى كانت ترتسم عليها سيماء الغضب أكثر مما كانت ترتسم سيماء الرعب، وإن بعضها كان مبتسمًا.
وفي تلك الليلة دخل الأتراك قرية كورتي وعاثوا فيها ذبحًا وقتلًا، ثم أشعلوا النار فيها فأبادوها عن بكرة أبيها. وعلى إثر هذه المأساة، أُرسلت إلى القاهرة ثلاثة آلاف أُذنٍ بشرية، نُزعت من الأموات ومن الأحياء على السواء.

وبعد شهرٍ من واقعة كورتي، نشب صدام آخر على الضفة الشرقية، بالقرب من جبل الدُقر، فأُبيد عدد آخر من الشايقية بنيران المدافع. والفتاة التي قامت بإثارة حماسهم في هذه المرة كانت تُدعى صفية، وهي ابنة لأحد زعماء الشايقية البارزين، فوقعت في الأسر بعد المعركة. إلا أن إسماعيل قد تصرّف معها بمنتهى الحكمة، إذ أمر بأن تُغسَل وتُعطّر وتُعاد إلى والدها.
ويصف لنا وادنجتون هذا الحادث فيقول: “وبمجرد أن رأى الزعيم كريمته تُعاد إليه معزّزةً مكرّمة، سألها بشيءٍ من القلق: كل هذا جميل، ولكن خبّريني: هل لا تزالين على بكارتك؟” فأكدت له أن أحدًا لم يمسّها بسوء. وعندما تحقق من صحة قولها، انسحب برجاله وأقسم ألّا يقاتل رجلًا صان له عرضه، وأبقى على عفّة كريمته… وكان لهذا الحدث الصغير صدى طيب في كلا المعسكرين.
وسواء أكان لهذا الحادث – كما ذكر وادنجتون – أثره السحري أم لا، فإنه من المؤكد أن هذه الموقعة كانت نهاية كل مقاومة منظمة في الوقت الحاضر، فقد تلاشى كل أملٍ في أن تتّحد القبائل المختلفة وسكان القرى المتعددة لمقاومة إسماعيل. وسرعان ما توافد زعماء الشايقية، الواحد تلو الآخر، مستسلمين خاضعين، ثم أبدوا استعدادهم للتجنيد ضمن القوات التركية.
وفي فبراير سنة 1821، ابتدأ الزحف مرةً أخرى، فانقسم الجيش إلى جزئين: تقدم نصفه متتبعًا مجرى النيل، بينما سار النصف الآخر عبر الفيافي والقفار إلى برير مباشرة.
اترك تعليقاً