الأباء والأبناء : صراع الأجيال
تستند القصة إلى تجارب الكاتب توم شولمان في أكاديمية مونتغمري بيل في ناشفيل، تينيسي، وتدور حول مجموعة من الشباب الملتحقين بمدرسة داخلية خاصة محافظة للغاية في عام 1959. يبدأ تود أندرسون (الصبي الخجول جداً ذو الروح الفنية الدفينة) سنته الأولى في أكاديمية ويلتون كطالب في المرحلة الثانوية ويتقاسم الغرفة مع نيل بيري من خلال نيل (الطالب المتفوق المُثقَل عاطفياً بالتوقعات المهنية الضخمة لوالديه)، يلتقي تود بمجموعة من الشباب مثل نوكس أوفرستريت، المراهق المتفائل والولهان بالحب وغيره من الذين يشتركون معه في التفكير، وكلهم يعانون بدرجات متفاوتة من الاستياء تجاه العوالم الصارمة والمقررة مسبقًا التي بناها لهم آباؤهم ومدرسيهم (الصرامة-الإنضباط- التقاليد).
كابتن يا كابتن
تتغير حياتهم عندما يحضرون فصول اللغة الإنجليزية للأستاذ الجديد جون كيتنغ (ويليامز). يشجع كيتنغ الفتيان على استخدام الشعر لاحتضان الحياة واكتشاف ذواتهم، الأمر الذي يصطدم بالمبادئ الأكثر صرامة للمدرسة. مثل المشهد الذي يطلب فيه كيتنغ من طالب أن يقرأ مقدمة كتابهم المدرسي للشعر. تفصّل المقالة الأكاديمية للدكتور جيه إيفانز بريتشارد منهجاً لغوياً للشعر يتضمن رسم بياني لأهمية وقيمة القصيدة. عند إعادة مشاهدة هذا المشهد، تقلبت عيناي عندما أرشدت المقالة الطلاب إلى أن يقوموا، أساساً، بـ “تكامل” القصيدة، لحساب “مساحتها” من أجل تحديد قيمتها.
العُمر إيه غير خيط، إن شاء الله الإبر ما إرتاحوا.!
ع خيري
كيتنغ، في تحول ثوري متعمد، يطلب بحماس من الطلاب أن يمزقوا صفحات المقدمة من الكتاب المدرسي. من الواضح أن هذا الفعل يهدف إلى أن يكون استعراضاً لحكمة كيتنغ الإبداعية. ومع ذلك، وفقاً لهذا الشاعر الفعلي، فإن معايير بريتشارد لتقييم الشعر “ميكانيكية بشكل هزلي”، فأسلوب كيتنغ اللامبالي يؤثر على هؤلاء الشباب بطريقة ما- مثل عندما يقول لهم : “اجلس، وسيُتدفق الشعر الجميل والعميق المعنى ببساطة من شفتيك” وما منحهم الحياة هو إقتباسه في يوم ما لقصيدة (العذارى) استغلوا الوقت” لهيريك واختزال تعقيدها في كليشيه – اغتنم اليوم!
يكتشفون أن كيتنغ كان عضوًا مؤسسًا لنادٍ منحلّ هو “جمعية الشعراء الأموات”، فيعيدون إحياءه. يكتشف نيل شغفه بالتمثيل ويبدأ في السعي وراءه، مدركًا أنه سيتعارض في نهاية المطاف مع رغبات والده الصارم.
وجه أخر للكابتن
ربما تمكن الفيلم بطريقة إكليشيه لتصوره عن مهنة التعليم، وربما كان هذا مضلل ومُغوٍ بعمق. فما ينمذجه كيتنغ (روبن ويليامز) لطلابه ليس نقدًا أدبيًا، ولا تحليلًا، ولا حتى دراسة. في الواقع، إنه ليس حتى قراءة جيدة ومتأنية. بل هو المعادل الأدبي لـ “الهوس الجماهيري والأسوأ من ذلك، أنه مناهض للفكر (anti-intellectual). إنه يأخذ ملاحظة إميلي ديكنسون المرحة لمُرشدها توماس هيغنسون، “إذا شعرت جسديًا كما لو أن قمة رأسي قد انتُزعت، أعلم أن هذا هو الشعر”، ويحولها إلى مبدأ نقدي. وهي ليست كذلك.
الشغف وحده، بمعزلٍ عن العمل الفكري المثير للتحليل الحقيقي، هو شغفٌ أجوف، بل وخطير. عندما نكتفي بـ “الشعور” بالقصيدة، منجرفين وراء رنين الكلمات، بدلاً من قراءتها فعليًا، فمن المرجح جدًا أن نفهمها خطأ. نرى السيد كيتنغ، في الواقع، يرتكب هذا النوع من الأخطاء خلال إحدى خطبه الحماسية لفتيان ويلتون. في خطاب مبتذل عن مقاومة الامتثال يبدو أنه ألقاه عدة مرات من قبل، يستشهد كيتنغ بتلك المقولة المكررة التي نادرًا ما تُفهم، “الطريق الذي لم يُسلك”: “قال روبرت فروست: ‘طريقان افترقا في غابة وأنا / أنا سلكت الطريق الأقل ارتيادًا / وهذا ما صنع كل الفرق’.”
الأستاذ/ كابتن كيتينغ يدّعي أنه سلك الطريق الاستثنائي، إن لم يكن الطريق الروحي الأسمى؛ لكنه يعلم على مستوى ما أنه تبجح أجوف. يوضح أنهم يقاتلون من أجل حياتهم الروحية: “هذه معركة. حرب. والضحايا يمكن أن تكون قلوبكم وأرواحكم. جيوش من الأكاديميين يتقدمون لقياس الشعر. لا! لن نسمح بذلك هنا: لا مزيد من السيد ج. إيفانز بريتشارد. [لاحظ كيف تم تجريده للتو من لقبه المهني]. الآن في صفي، ستتعلمون التفكير بأنفسكم مجددًا. ستتعلمون تذوق الكلمات واللغة. بغض النظر عما يقوله أي شخص لكم، الكلمات والأفكار يمكن أن تغير العالم.” والآن بعد أن تم تطهير كتابهم المدرسي من أي شائبة من الفكر النقدي، تحرر الطلاب للاستمتاع بلقاء غير مُوجَّه مع الشعر في حالته الخام.
هذا الأسلوب في التعامل مع الشعر—ما يُطلق عليه أحيانًا “تقدير”الشعر، تمييزًا له عن نقد الشعر—هو أسلوب عمل “مجتمع الشعراء الموتى”، نسخة ويلتون المثقفة من جماعة “الجمجمة والعظام” في جامعة ييل. يشرح السيد كيتنغ الغرض من المجموعة لدائرته المقربة من الطلاب بهمسٍ متآمر:
“كان الشعراء الموتى مكرسين لامتصاص نخاع الحياة. هذه عبارة من ثورو كنا نستحضرها في بداية كل اجتماع. كان القليل منا يجتمعون في الكهف الهندي القديم ويقرؤون من ثورو، ويتمان، وشيلي، العظماء—وحتى بعضًا من أشعارنا الخاصة—وفي سحر اللحظة، كنا ندع الشعر يمارس سحره… كنا رومانسيين. لم نكن نقرأ الشعر فحسب، بل كنا ندعه يقطر من ألسنتنا كالعسل.”
إذا كان مسؤولو مدرسة ويلتون وأولياء الأمور يشتبهون في أن السيد كيتنغ يقود طلابه إلى الضلال، مثل عازف المزمار، فهناك شيء من الصحة في هذا الاتهام. أو بالأحرى، هو يرسلهم إلى الضلال، دون أن يقودهم حقًا. ينتهي الاجتماع الأول للمجتمع المُعاد تشكيله بأحد الطلاب (مجتمع الشعراء الموتى) وهو يلقي قصيدة فاشيل ليندسي سيئة السمعة لعام 1919 بعنوان “الكونغو”، وهي نص سياساته العرقية غامضة في أحسن الأحوال؛ وقد كتب عنها دبليو إي بي دو بويز: “السيد ليندسي لا يعرف سوى القليل عن الزنوج، وهذا القليل خطير”. ومهما كانت السياسات الحقيقية أو المقصودة للقصيدة، فإن مشهد زمرة من الفتيان البيض من مدرسة إعدادية يهرولون خارج كهف إلى الليل وهم يرددون لازمة القصيدة (“ثم رأيت الكونغو، يزحف عبر الظلام، / يشق الغابة بمسار ذهبي”)—حسنًا، إنه مشهد يبعث على القشعريرة. يذكرنا بأغنية “ما الذي يجعل الرجل الأحمر أحمر؟” من فيلم “بيتر بان” لديزني. فالمكان، في النها ية المطاف، هو “الكهف الهندي القديم”. فمن داخل كهف قديم لهنود حمر، يصرخ صبيان أمريكان ذوي أصول أوربية : ثم رأيت الكونغو.!
على الرغم من كل حديثه عن “إيجاد الطلاب لصوتهم الخاص”، فإن كيتنغ في الواقع لا يتيح لطلابه سوى فرصة ضئيلة جدًا للتفكير الأصيل. إنها حرية يُبشر بها كثيرًا ولكنها لا تتحقق أبدًا. يُقدم مثال صارخ في إحدى اللحظات الأيقونية للفيلم، عندما يقفز ذلك السيد كيتنغ المهرج بأساليب تدريسه “غير التقليدية” فجأة على مكتبه. لماذا؟ “أنا أقف على مكتبي لأذكر نفسي أنه يجب علينا باستمرار أن ننظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة”، كما يصرح بلباقة. يا للجرأة: إنه يقف على ارتفاع قدمين ونصف تقريبًا عن الأرض. كان رالف والدو إيمرسون، في مقالته “الطبيعة”، قد طرح نفس النقطة بشكل أكثر جذرية، مقترحًا أن “اقلب عينيك رأسًا على عقب، بالنظر إلى المشهد من بين ساقيك”.
ثم يجعل كيتنغ الفتيان يصعدون إلى الأمام، بالطبع، وواحدًا تلو الآخر واثنين تلو الآخر يصعدون إلى مكتبه، وهم أيضًا، “ينظرون إلى الأشياء بطريقة مختلفة”—بالضبط بنفس الطريقة المختلفة التي اتبعها هو. بعد أن يختبر كل منهم هذا “التغيير الطفيف في موقعه المحلي” (إيمرسون)، ينزل أو يقفز من المكتب، كما لو كان قطيعًا من فئران “الليموس” (lemmings) تقفز من جرف: تحذير كيتنغ، “لا تمشوا فقط عن الحافة مثل الليموس!” للأسف لا يخدم إلا لتأكيد السخرية المروعة لهذه الاستعارة الدرامية غير المقصودة. حتى عندما يكرر الطلاب هذه الوقفة المكتبية في ختام الفيلم، في لفتة من العصيان المدرسي (أو ربما طاعة لكيتنغ)، ندرك أنه بينما يسير الفتيان على إيقاع طبول مختلفة، فإنها طبول كيتنغ. أو أنهم يرقصون على أنغام مزماره، أو مواعظه : إغتنموا اليوم.!

يفيض الفيلم بمشاعر “جيل الطفرة السكانية” (Baby Boomer sentiments) حول الافتقار إلى الإشباع العاطفي. الحياة بالتأكيد تحتاج إلى حس المغامرة والدهشة، ولكن لا شيء يمنع هؤلاء الشباب من أخذ الأموال المتاحة لهم عندما يبلغون السن القانونية وفعل ما يحلو لهم. ألم تثبت لنا كوكبة الفاشلين السياسيين وورثة الشركات ذلك؟ لننظر إليهم في قمصانهم الهاوايية الباهظ الثمن، على سبيل المثال. أو أبناء ترامب أو هانتر بايدن، أليس هؤلاء هم نواتج جيل الطفرة السكانية ذاتها.
لكنها عموماً أزمة تسبب فيها ذات الجيل، والتي روج لها المخرج: “العلوم الإنسانية العاطفية”، اليوم وفي حركة الأجيال يقف أبناء الطفرة السكانية على مستوى السياسات وهم يواصلون إنحدارهم ذلك فعندما ألقى (باراك أوباما) –رئيس سابق للولايات المتحدة الأميريكية نكتة، في مصنع لجنرال إلكتريك في ويسكونسن في 30 يناير، قائلاً إن “الناس يمكن أن يكسبوا أكثر، ربما، في التصنيع الماهر أو الحرف اليدوية مما قد يكسبونه بشهادة في تاريخ الفن”.
السينماتوغرفي:
يُصوّر فيلم “مجتمع الشعراء الموتى” (Dead Poets Society) فصل الخريف بجمالٍ أخاذ، بينما يعرض في الوقت ذاته فترة الصبا بدقةٍ متناهية.
السيناريو :
وفقاً لكتاب البطل بألف وجه، فإذا تتبعنا رحلة البطل في فيلم مجتمع الشعراء الموتى وفقاً لمفهوم جوزيف كامبل في إثنتي عشر مرحلة أولاً مرحلة العالم الاعتيادي: عالم الطلاب في أكاديمية ويلتون هو عالم صارم تحكمه التقاليد، والانضباط، والطاعة العمياء للقواعد. ثم نداء المغامرة: يأتي النداء مع وصول المعلم الجديد، السيد كيتنغ، الذي يحثهم على “اغتنام اليوم”. يكتشف الطلاب “مجتمع الشعراء الموتى” السري القديم الخاص به ويقررون إحياءه. وتلي ذلك مرحلة رفض النداء: يتردد بعض الفتيان، خوفًا من العواقب وكسر القواعد. ويرفض تود الانضمام بسبب خوفه الشديد من التحدث أمام الجمهور. ومن ثم لقاء المُرشد: يستمر السيد كيتنغ في إلهامهم لنبذ الامتثال. كما يعثر نيل على كتاب شعر قديم يصبح بمثابة الدليل الروحي لاجتماعاتهم. و عبور العتبة: “يعبر” الفتيان العتبة عندما يتسللون ليلاً خارج أسوار المدرسة، ويجتمعون سراً في كهف، مخالفين بذلك قواعد ويلتون بشكل صريح. و مرحلة الاختبارات، الحلفاء، الأعداء: يواجه الأعضاء “الاختبارات” (مثل قرار نيل بالتمثيل رغم معارضة والده)، ويتخذون السيد كيتنغ “حليفاً”، بينما يواجهون “أعداء” متمثلين في إدارة المدرسة الصارمة ووالد نيل المتسلط.
ومرحلة الاقتراب من الكهف الباطني: الكهف هو مكانهم السري، حيث يمارسون حريتهم بعيدًا عن القيود، ويقرؤون الشعر، ويعيشون اللحظة، مما يعمق إيمانهم بروح المجتمع. وتواجههم مرحلة المحنة: تصل المحنة ذروتها عندما يكتشف والد نيل أمر المسرحية ويقرر إخراجه من المدرسة، وفي نفس الوقت، يفضح تشارلز أمر المجتمع في مقال بالجريدة، مما يفتح عليهم باب التحقيق. وعندما نقترب من النهاية تأتي “المكافأة” كانتصارات شخصية: يؤدي نيل دورًا عظيمًا في المسرحية، وينجح نوكس في كسب ود كريس، ويتغلب تود على خوفه ويلقي قصيدة أمام الفصل. وفي طريق العودة: يتمثل “طريق العودة” في مواجهة نيل لوالده الغاضب مباشرة بعد انتهاء المسرحية، حيث يصطدم عالمه الجديد بحريته المكتشفة مع واقعه القديم. ومن ثم مرحلة “البعث” هو مزيج من الموت والولادة الجديدة. ينتحر نيل بعد قرار والده القاسي بإرساله إلى مدرسة عسكرية. وفي المقابل، “يبعث” تود من جديد، حيث يجد صوته ويدافع عن السيد كيتنغ. وأخيراً العودة بالإكسير: عندما يُطرد السيد كيتنغ، “يعود” الطلاب “بالإكسير” (الدرس المستفاد). يقود تود التمرد، ويقف الطلاب على مكاتبهم، مُعلنين أن روح “اغتنام اليوم” والشجاعة ستعيش بداخلهم.


اترك تعليقاً