آدم إبراهيم
لا يكاد يوجد إنسان على هذا الكوكب لم يسمع باسم ماردونا، ولو لمرة عابرة. فاسمه، وصورته، وحركاته في الملعب، صارت جزءا من المخيلة الجمعية للبشرية. كان لاعب كرة القدم، لكنه كان أيضا رمزا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، تجاوز المستطيل الأخضر ليغدو أيقونة عالمية.
في ذاكرة القرن العشرين، تلمع أسماء قليلة استطاعت أن تتجاوز حدود تخصصها لتصبح علامات فارقة في التاريخ الإنساني.
ومن بين هذه الأسماء، يظل اسم دييغو أرماندو ماردونا واحدا من أكثرها رسوخا، ليس لأنه كان لاعب كرة قدم ماهرا فحسب، بل لأنه فاوض التاريخ بقدميه، وأعاد صياغة مفهوم العلاقة بين الرياضة والهوية، بين الجماهير وأحلامها، بين اللعب والسياسة.
وُلد ماردونا في 30 أكتوبر 1960 في حي فيا فيوريتو الفقير بضواحي بوينس آيرس المدينة التي كتب فيها بورخيس عن المتاهات التي ما نزال عالقين بينها. بعيدا عن ملاعب النخبة ومراكز التدريب الفاخرة. كان نتاج بيئة لم تمنحه إلا القليل من الموارد، لكنها منحتْه الخيال والصلابة وروح التحدي. ومنذ لحظة صعوده كلاعب، صار هو الحكاية التي تروى عن الفتى القادم من أقاصي الهامش، الذي قفز فوق القيود الطبقية والجغرافية، ووقف وجها لوجه أمام التاريخ، ليوقع معه اتفاقا جديدا باسم الجنوب العالمي.
في فيلم (يد الله) للمخرج الإيطالي الساخر باولو سورينتينو، يحضر ماردونا كحدث كوني. كان الأمر أشبه بهبوط الآلهة من السماء، حين حطّ في أرض نابولي عام 1984، لم يكن الأمر مجرد صفقة انتقال رياضي؛ كان الأمر أشبه بموعد تاريخي بين مدينة مهمشة ولاعب قدّر له ليكون رمزا للمستضعفين. نابولي، التي طالما عاشت على هامش المركز الصناعي والسياسي في جنوب إيطاليا، وجدت في ماردونا نصيرا ومعجزة، ورأت في أقدامه برهانا على أن الجنوب، أيّ جنوب، قادر على هزيمة الشمال المتغطرس.

بالنسبة لليسار العالمي، لم يكن ماردونا مجرّد لاعب أسطوري، بل كان حليفا للقضايا العادلة. في أمريكا لاتينو الثمانينات، حين احتدم الصراع بين اليمين المدعوم من الغرب واليسار الثوري، لم يخفِ ماردونا انحيازه. زار كوبا وجلس مع فيديل كاسترو، وعبّر عن إعجابه بالثورات الساعية لتغيير موازين القوى بين المركز والأطراف. كما دعم هوغو تشافيز ووقف إلى جانب كل الحركات المناهضة للإمبريالية. كان موقفه واضحا وضوح الشمس في دعم الفقراء والمستضعفين، وفي رفض الاستعلاء الأوروبي على شعوب الجنوب. وفي هذا السياق، لم تكن انتصاراته في الملعب مجرد بطولات رياضية، بل كانت رسائل سياسية، كل هدف يسجّله، هو فعل مقاومة. لقد قدّم فنا كرويا يجمع بين الحيلة والشجاعة التي لا تُضاحى.

أما بالنسبة لي، فأنا لست ممن يجلسون تسعين دقيقة أمام مباراة كرة قدم، لكن مباريات ماردونا شيء آخر. ما زلت أعود إليها في أرشيف الإنترنت، أشاهدها وأعيدها بلا ملل. هناك شيء سحري في طريقته في المراوغة، في ثقته التي تقترب من التحدي، في إصراره على أن يجعل من اللعبة فنّا، ومن الملعب مسرحا لإعادة كتابة التاريخ. ولعل أبرز لحظاته التي جمعت بين الرمزية والسياسة كانت في مونديال 1986، حين واجهت الأرجنتين إنجلترا. قبل أربع سنوات فقط، كانت حرب الفوكلاند قد خلّفت جرحا غائرا في الذاكرة الأرجنتينية، جرحا لم يكن من السهل مداواته. حين سجّل ماردونا هدف “يد الله” ثم أتبعه بـ”هدف القرن”، بدا الأمر وكأنه انتقام رمزي، ليس للأرجنتين وحدها، بل لكل الجنوب العالمي في مواجهته مع القوى الاستعمارية. لقد تحوّل ماردونا، في تلك اللحظة بالتحديد، إلى تجسيد حيّ لفكرة أن المستضعفين قادرون على قلب الطاولة. بالنسبة لكثيرين في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، كان ذلك الانتصار تأكيد على أن بإمكان الجنوب هزيمة الشمال، ليس فقط في ميادين السياسة، بل حتى في لعبة قد يعتبرها البعض مجرد تسلية مؤقتة. كرة القدم، في يد ماردونا، كانت أشبه بجلسة تفاوض مع التاريخ نفسه. لم يكن الأمر مجرد محاولة للفوز على الخصم، بل محاولة لإعادة كتابة القصة، لإعادة توزيع المجد، ولو لمرة واحدة. من هدفه الشهير “يد الله” إلى مرواغته الخيالية لإنجلترا في مونديال 1986، كان كل مشهد على العشب الأخضر يشبه بيانا سياسيا غير مكتوب، يخلط بين الفن والجرأة، بين الحيلة والعبقرية.

رحل ماردونا في نوفمبر 2020، لكن حضوره ظل طاغيا. إذ خرجت نابولي كلها في وداعه، وكأنها فقدت واحدا من أبنائها الأبرار. كما رُسمت جداريات ضخمة لوجهه بين أحياء المدينة. وفي الأرجنتين، أعلن الحداد الوطني، وتنتشر تماثيله في الملاعب والشوارع كما ظهرت كنيسة تحمل اسمه. مارادونا في الذاكرة الشعبية، هو قديس شعبي، ليس لأنه كان بلا أخطاء، بل لأنه كان بشريا خالصا، بموهبة خارقة وإخفاقات مدوية، لقد ظل وفيا لفكرة أن اللعب يمكن أن يغير التاريخ. وبقيت صوته وصورته جزءا من ذاكرة قومية مشتركة. لقد فهم الناس، في كل القارات، أن هذا الرجل لم يكن مجرد لاعب، بل كان ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية، استطاعت أن تجعل من كرة القدم أداة لتحدي التاريخ.
لقد علّمنا ماردونا أن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل تفاوض مع التاريخ، وإعادة توزيع لمواقع القوة في المخيلة العالمية. لقد كان انتصارًا للجنوب العالمي في وجه الشمال، وبرهانًا على أن الموهبة حين تأتي من الهامش، قادرة على هزّ العروش وإعادة تعريف معنى النصر.
اترك تعليقاً