الخرطوم بالليل: الموضة وسياسة الجسد في حقبة الإستعمار -7

الطيور الزرقاء في كل أرجاء الخرطوم

ترك التعليم الرسمي للفتيات أثرًا امتدّ وراء أسوار الفصول الدراسية، حيث شكّل نمطٌ جديد من اللباس والسلوك العام رداءً متحرِّرًا بعـَدَ أن حوّل البرنامج الإستعماري، أجساد الطالبات إلى أدوات انضباط. تقول حاجة كاشف بدري، شابةٌ في أواخر الأربعينيات:

«كان بإمكان الطالبات التنقل وهنّ مرتديات التُوبّ بعد الساعة التاسعة مساءً دون خوف أو مرافقة».

 تبدو العبارة بسيطة، لكنها تكشف عن حراكٍ دراماتيكي في حياة النساء؛ فالتُوبّ، بطيّاته وإمالاته، منح الفتاة استقلالًا جديدًا في المكان والزمان بعيدًا عن رقابة العائلة.

مع اتساع برامج التعليم، بدأت النساء والفتيات يسافرن لأميال أبعد، ويقضين الليالي خارج البيت، متجاوزات حدود الحريم المحافظة. كان عبـُور هذه الحواجز الطقوسيّة انتهاكًا صارخًا للأعراف، لكنَّهنّ بتلقائيّةٍ وشجاعةٍ متجددة، عبـَرنها مرارًا، واضْطَبطن لباسهنّ وأجسادهنّ للانطلاق نحو آفاقٍ جديدة.

رغم التقدّم اللافت، بقي التعليم النسائي حكرًا على ما وراء الأسوار العالية للمدارس. ففي احتفال «يوم الأم» الذي افتُتِح به هذا الفصل، سُمح للمئات من النساء بالاحتشاد في ساحة المدرسة، في حين اقتصر الحضور من الرجال على قلةٍ ذات مكانةٍ اجتماعيةٍ رفيعة، أما فرقة شرطة أمدرمان الصاخبة فبقيت وراء شاشة حديدة.

لقد كان المشهد انقلابًا للأدوار: النساء هنّ الفاعلات المرئيّات، ورجال الإمبراطورية (المستعمرين وموظفيهم) من خلف الحواجز.

ولم يكن اقتحام المساحات شبه العامة بالأمر اليسير؛ فقد وصفت إليزابيث بول عزلة أول اجتماعٍ لنادي السيدات قائلةً:

«كان فناء مدرسة البنات موقعًا مناسبًا للاجتماع: تحيطه جدرانٌ عالية، فتتسلل إليه الزوجات السودانيات اللائي لا يجرؤن على الخروج نهارًا عند الغروب. وكنا نرى رجال الشرطة جالسين فوق الجدار—ربما ليقبضوا على أي متسللين—ويبدون اهتمامًا بالغًا بما ندبره هناك».

وضوحُ حضورهم لم يأتِ من فراغ؛ لقد مثَّل حاجزُ الحماية الجسديّ تذكيرًا صارخًا للنساء بنوعٍ من الأمن والخطر في آنٍ معًا. أما الجدران الملموسة فكانت مجرد مجازٍ علنيٍّ لجدرانٍ أخرى معنوية. فقد كتبت بيزلي عن تجربة تشجيع التعليم في السودان:

«تعليم البنات يعني أن تلعب بالأوراق المسلَّمة إليك. وكان من تلك الأوراق إثبات أن مدارس البنات قادرة على الاستمرار وراء جدرانٍ عالية دون كثير تجاوزٍ للعرف… ثمّ تدريجيًّا ستجد الفتيات طريقهنّ للخروج عندما يصبحن مستعدات».

وكان الخروج من تلك الأسوار عمليّة بطيئة مدروسة. فعند بداية العام الدراسي 1952، لاحظت المحقِّقة الصحية جيرالدين كولوِك أنّ طالباتها صار لديهنّ ميلٌ للاسترخاء أكثر: «قبل عامين، كن النساء يرفعن تيابهن قسرًا، والآن يضعنها جانبًا ويجلسن بسهولةٍ بغير تكليف في ألبسةٍ عادية (التي يلبسنها تحت التُوبّ) مع غطاءٍ خفيف للرأس—لكنّه يتطلب امرأةً متحررةً لتجلس براسٍ عارية».

وما سمّته كولوِك «التحرر» هو في الجوهر ممارسةٌ لوكالةٍ فرديةٍ على الفراغ العام. ففي الثقافة العربية الإسلامية، ليس «الحريم» مكانًا فحسب، بل سلوكٌ متحول—يلتفُ بُعْدُه الجسديّ حول الضمائر والعلاقات. ولطالما لعبت النساء بالستائر والحواجز والإيماءات لصنع مساحاتٍ من الخصوصية وسط الزحام.

وفي القرن العشرين، قدّمت الإدارة الإمبراطورية مواقعٍ شبه عامةٍ تستدعي المفاوضة الدقيقة. كانت المدارس مساحات عابرةً: لسن في العلن تمامًا، ولا في كنف البيت. وعندما خلعت طالبات كولوِك التُوبّ في الصف، فقد أعدن تعريف الخصوصية في العلن، وعبّرن عن راحةٍ متناميةٍ مع الفضاء المدرسي.

سريعًا، تقدمت أجيالٌ أصغر من وراء الجدران الملموسة والمجازية لتصبح رائدات التغيير. فقد خرجت فِرَق الكشافة العالمية للفتيات، أو «الطيور الزرقاء – » Bluebirds، بها إلى العلن. تأسّس أول فوجٍ في الخرطوم عام 1947 بمشاركة فتياتٍ من إحدى عشرة دولة—من السودان ومصر وسوريا إلى إنجلترا. تستحضر لنا ليدي إينيد كومينغز، مفوضة كشافة الفتيات في السودان، حماس التأسيس المبكر:

«كانت الصغيرات يرغبن في الانضمام أيضًا، غير أنّ اسم “براونيز” Brownies لم يناسبهن، فعتمدنا تسمية “بلو بيردز” Bluebirds  نسبةً إلى الكشافة الهندية. سجلت ابنتايّ كارول وسالي من أوّل فوج، وتبِعْهنَّ اليونانيات ثم دخلت أو مدرمان في الحال—ثم انتشرت “الطيور الزرق” في كل مكان».

تميز فوج الخرطوم بتنوعه ووسامته، بينما انقسمت أفواجٌ في محافظاتٍ أخرى على خطوطٍ عِرقية، أو اقتصرت مواردها على الزيّ المدرسي الأبيض نفسه. وحرصت القائدات—ك (بيغي فيدلر) في مدينة القضارف—على تمييز الكشافة بربطات عنقٍ مصبوغةٍ بالقرمزي.

وقد طالبت أنشطة الكشافة بإحساسٍ من الانتماء الخاص: لعبٌ طقسيٌّ وحياكةٌ للرمايات وشارات إسعافٍ أولي، مع علاجاتٍ عمليةٍ وحياكةٍ لخياطة ملابس الأطفال. وبعد أشهرٍ من التدريب، تُرسل امتحاناتهنّ إلى مقر الصليب الأحمر بلندن للتصحيح.

وجُرّبت مهاراتهنّ عمليًّا في إضراب مستشفى الخرطوم عام 1952، حين هجر طاقم التمريض الوافدون والسودانيون وظائفهم معًا، فتطوّعت «الطيور الزرقاء» لرعاية المرضى أسبوعًا كاملًا. وانتهى المشهد بأن مرضى الحريم من المرافقات بكين وقت وداعهنّ. وبعد سنوات، تلقّت كومينغز رسالةً من رئيسة الكشافة في أمدرمان تخبرها بأن فتياتهنّ يكسرن إضرابًا في المستشفى «كما فعلنَّ في القديم».

شكّلت تلك المشاركة مفترق طرقٍ بين صعود القومية وانتماء الإمبراطورية، وبين أدوارٍ مجتمعيةٍ جديدةٍ ومساحاتٍ لم تُخترع بعد في السودان. ورغم أن الدافع كان مادة احتجاجٍ عملي أكثر من كونه مناورةً سياسيةً، فقد علّمت الكشافة معنى المواطنة ورفعة المسؤولية.

ومن يرى بتمعّن سيكتشف أنّ الحواجز الاجتماعية كانت تنهار، وأن أجساد الفتيات والنساء باتت مرئيةً في الشوارع والساحات والبيوت والمستشفيات.

 لقد كنّ، بتيابهن البيضاء وزيّ الكشافة الأزرق، كالوميض الأزرق في الشجر، يعلنّ عن جيلٍ جديدٍ يصنع ذاته في الفضاء العام: ضليعاتٍ في الحياة المنزلية وحديثات عهدٍ في التحرك خارج حدود المنزل.

لم يكن التعليم الإمبراطوري قائمًا على نقل المعارف فحسب، بل على إعادة تصميم أجساد وسلوكيات النساء السودانيات. ومسيرة الفتاة من البيت إلى المدرسة شكّلت درسًا بالغ الأثر، إذ سرّحتها من قيود المرافقين لتواجه مخاطر جديدة. وهنا، في صورتين رصدهما المؤرخون، تتجسّد تلك الحركية.

الأولى، من «يوم الرياضة» عام 1959، تظهر فوجًا من الكشافة في استعراضٍ أنيقٍ بزيّهنّ الأبيض، وهن يخطوْن بثباتٍ عبر الملاعب المدرسية—صورةٌ للحلم الإمبراطوري المتجسّد في شرايط عنقٍ وأحذيةٍ رياضية. بعدها الاستقلال بنت حريتها في الأحذية، لكن أحذية التنس بقيت رسالةً قويةً عن التقدّم والمكانة.

أما الثانية، فتلتقط لحظة وصول مجموعة من النساء إلى صفٍّ للرعاية الاجتماعية عام 1954، فأسرعْنَ وأيديهنَّ تحمل مستلزمات الخياطة، وأقفين ملوّحاتٍ بابتساماتٍ خجولةٍ تفيض توقعًا. التُقطت الصورة ليرصدها زوّادةُ الحركة—لحظةُ وصولٍ هي استهلال لظهورٍ عامٍّ للمرأة السودانية.

وقدرة هؤلاء النسوة على تكرار عبور الحدود—المكانية والاجتماعية—مرارًا، بصحبة تلك الخطوات الثابتة، ما زالت تتردّد صدىً إلى اليوم، شاهدةً على إعلانٍ جماعيٍّ عن موطئ قدمٍ جديدٍ لنساء السودان في الفضاء العام.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *