الخرطوم بالليل: الموضة وسياسة الجسد في حقبة الإستعمار -1

بقلم: ماري غريس براون

ترجمة: أيمن هاشم


“أحتاج أن أفهم كيف يكون المكان على الخريطة جزءًا من التاريخ أيضًا، حيث وُلدتُ… وحيث أحاول أن أبدع.”
أدريان ريتش، “ملاحظات نحو سياسة الموقع” (١٩٨٤).


في عام ١٨٩٨، قبل سنوات قليلة من التقاط كليفتون أولى صوره، اجتاحت قوات أنجلو-مصرية بقيادة اللورد هربرت كتشنر السودان. لم تكن هذه الأرض المُهمَشة على أطراف الإمبراطورية العثمانية جذابةً بذاتها للبريطانيين، لكن قيمتها تكمن في موقعها الجغرافي كحاجز ضد الاضطرابات السياسية الممتدّة شمالًا نحو مصر، وكحلقة حاسمة في حلم بريطانيا بخط نفوذ يمتد من كيب تاون إلى القاهرة. أما المصريون، فكانوا حريصين على استعادة السيطرة على أرض اعتبروها امتدادًا لهم. دخلت القوتان الأجنبيتان في شراكة حكم غير متوازنة استمرت حتى عام ١٩٥٦م.

لم يكن السودان كغيره من المستعمرات البريطانية: فلم يكن مركزًا للتجارة في المحيط الهندي ككينيا، أو ميدانًا للتبشير المسيحي في جنوب أفريقيا، أو محطًّا للرومانسية الاستشراقية كالهند.

بل صنّفته الخارجية البريطانية كمنطقة “قاسية”، مناسبةً للعزّاب الرياضيين الذين يفضلون مشاقّ الترحال على راحة المنزل.

تنوّعت الجغرافيا والثقافة في السودان، مما عسّر تطبيق سياسات موحدة، تاركًا إرثًا إمبراطوريًا متفاوتًا. ركزت الحكومة جهودها على المناطق الشمالية والوسطى، حيث العاصمة الخرطوم وأم درمان، وثقافة عربية-إسلامية متجانسة نسبيًا. نشأت في هذه المناطق هوية ثقافية حضرية محافظة منفتحة على جوانب من التعليم والحكم الغربي. نساء هذه المجتمعات الناشئة هن موضوع هذا الكتاب.

عززت السياسات الاستعمارية الانقسامات الثقافية بالسودان. ففي عشرينيات القرن العشرين، رسمت سلسلة قوانين تُعرف ب”سياسة الجنوب” حدودًا اصطناعية بين شمال “عربي-مسلم” وجنوب “أفريقي-مسيحي”، مما زاد التهميش السياسي والاقتصادي للجنوب. عند الاستقلال عام ١٩٥٦، هيمن الشمال بقيادة الخرطوم، لتصير الانقسامات وقودًا لحربين أهليتين، تتوجت بانفصال جنوب السودان عام ٢٠١١.

ورث الباحثون هذه التقسيمات المُفتعلة في كتاباتهم عن السودان. مصطلحات ك“شمال” و”جنوب” لا تعكس التنوع العرقي والجغرافي الممتد من الشرق إلى الغرب، بين الريف والحضر، والصحراء والأهوار. لكن الهوية العربية-الإسلامية التي تشكلت في الخرطوم وأم درمان منذ القرن التاسع عشر تُعرِّف اليوم كثقافة “شمالية”، وسنستخدم هذا المصطلح للإيجاز، مع تذكير القارئ بأن الهويات كانت متقلبة تحت الاستعمار، وأن السؤال الأهم لكثيرين كان: كيف نحافظ على قيمنا في مواجهة المحتل؟

تتناول كتب عصر الاستعمار ونضال السودان للاستقلال، لكن قلما تتعمق في حيوات النساء السودانيات. فالتواريخ السياسية تذكرهن كموضوعات للسياسات الحكومية فحسب، بينما تركّز الدراسات النسوية على قضايا منفصلة كالتعليم أو ختان الإناث، دون دمجها في السرد الوطني. يعود هذا لندرة الوثائق التي كتبتها نساء سودانيات، بسبب محدودية التعليم وضعف الإلمام بالقراءة والكتابة، وثقافة الحريم الصارمة التي دفعت باحثين للادعاء أن تاريخ النساء “مجهول”، أو اختزالهن في دور الكورس اليوناني الذي يردد أصوات الرجال. لكن الناشطة نفيسة أحمد الأمين (من جيل الأربعينيات) تؤكد:

“الوعي السياسي للنساء فاق تعليمهن”.

يكمن التحدي في البحث عن هذا الوعي خارج النصوص. كما تقول سارة دويتش في بحثها عن تجارب النساء الحضرية في بوسطن القرن التاسع عشر: “لم أجد تنظيرات النساء عن المدينة في النصوص النظرية، بل في طرق سيرهنّ في الشوارع، وممارسات منظماتهن، وحيواتهن اليومية”. كذلك عبرت السودانيات عن فهمهن للاستعمار من خلال حركتهن في الخرطوم، واختيار ملابسهن، وتعديل عاداتهن. هنا يتجلى الوعي السياسي الذي أشارت إليه نفيسة: ليس بالكلمات، بل بالحركات والإيماءات.

يعالج هذا الكتاب أجساد النساء كسجلات للتجربة الاستعمارية، مقدّمًا أصواتهن من خلفية الكورس إلى واجهة المسرح.


الجسد كساحة سياسية

تجسّدت تجربة الإمبراطورية على أجساد السودانيين بشكل حميمي. فالإمبريالية لم تكن نظامًا سياسيًا فحسب، بل واقعًا ملموسًا. كما أوقف كليفتون جارته أمام عدسته، أعاقت مشاريع التمدين الاستعمارية حيوات النساء وأعادت توجيهها.

تستلهم هذه الدراسة المنعطف الحديث في الدراسات النسوية الذي يربط البنى العالمية بالسلوكيات الحميمة. فـ”العالمي” و”الحميمي” قوتان متداخلتان، تعيدان تشكيل المقاييس النمطية وتقتحمان السرديات الكبرى بالتفاصيل اليومية والعواطف. لكن الحميمية هنا ليست بريئة؛ فهي مشبعة بعلاقات القوة والعنف.

اعتمد الحكم الاستعماري على القمع، لكن تأثيره لم يكن أحاديًا. فالأجساد لم تكن ساحات تنفيذ سياسي فحسب، بل حدودًا تنتهي عندها سلطة المستعمر، ومساحات يُسمع فيها صوت المُستعمَر.

بتتبع “الترجمات والخلطات” في الممارسات الجسدية، نكشف كيف حوّر السودانيون شروط الإمبراطورية.

يدعو هذا الكتاب إلى التركيز على التجسيد المادي للأنظمة السياسية عبر الجسد. فحركاتنا الأساسية كالمشي والجلوس هي “تقنيات جسد” تختلف عبر الثقافات والطبقات، وفقًا لمارسيل موس. الجلد، كـ”حدود” مرئية بين الفرد والمجتمع، تسجل عليه قواعد المجتمع وتُرفض أحيانًا. الممارسات الجسدية تعكس الانتماء والمقاومة، وتجعل الممارسة السياسية مرئية.


الخرطوم المتغيرة

يحاجج هذا الكتاب أيضًا أن الزينة الجسدية تدل على الموقع كما الهوية. في السودان القرن العشرين، أعاد الاستعمار تشكيل عادات الجسد، معززًا التقسيمات الجندرية وموجهًا أنماطًا جديدة من اللباس والمشي. كجارته في الصورة، ردت النساء بنظرات مقاومة وتكيّف.

مع تغير العالم تحت أقدامهن، استخدمت النساء أجسادهن لترتيب مواقعهن داخل أنظمة الاستعمار والقومية. جيل من الشابات الحضريات، محرومات من المشاركة السياسية الرسمية، صغنَ بحركات جسدهن ولباسهن رقصات دقيقة للتعبير عن عالم متحول.

الحركة جوهر هذه القصة: فصول الكتاب تتتبع حركات النساء داخل جلودهن وعبر الفضاء الاستعماري. القابلات المدربات عند الولادات، وتنقلت التلميذات في زيهن المدرسي، واجتازت الناشطات شوارع الخرطوم الخطرة، وتنقلت المستهلكات بحثًا عن آخر صيحات الموضة.


التوب: نسيج الهوية والسياسة

ارتدت النساء السودانيات التوب، قطعة قماش مستطيلة (٢×٤–٧ أمتار) تُلبس كرداء خارجي. يعود أصلها للقرن الثامن عشر، عندما ألبس تجار دارفور نساءهم أقمشة فاخرة كرمز للثراء.

بحلول القرن العشرين، تنوعت أقمشة التوب المستوردة من مصر والهند وإنجلترا واليابان، بينما استخدمت الطبقات الفقيرة قطنًا محليًا خشنًا (الدمورية).

تحول التوب من رمز نخبوي إلى زي يومي مرتبط بالخصوبة والمسؤولية الجندرية: تهديه العائلات للفتيات عند البلوغ، ويشتريه العريس لعروسه، ويُمنح عند كل ولادة. كمادة مستوردة، ربط التوب النساء بالاقتصاد العالمي. كلباس يشير للخصوبة، أظهر تفاعلاً حميمياً. كلباس المدرسات والممرضات، كما وازن بين الحداثة والتقاليد.

الموضة، كالجسد، تعكس الذات والموقع.

في السياقات الاستعمارية، كانت الموضة ساحة تفاوض. لكن السودانيات قاومن الأزياء الغربية “غير المحتشمة”، مفضلات التوب الذي رأى البريطانيون فيه زيًا “محترمًا”، فدمجوه في مشاريع التحديث كالتعليم والصحة.

تميز التوب بسمة أخرى: لكل قطعة اسم. أسماء التوب (التي يختارها الباعة والعملاء) تعكس المواضيع السائدة: قادة سياسيون، زيجات مشهورة، إنجازات وطنية. عنوان الكتاب مأخوذ من توب شعبي في خمسينيات القرن العشرين يُدعى “الخرطوم ليلًا” أو توب “الخرطوم بالليل”، فهو توب يُجسِّد مشهداً ليليَّاً للعاصمة الخرطوم تنتشر فيه نقاط متلألئة تُشبه أضواء العاصمة المتلألئة.، ليعبر عن التحولات الخطيرة والمثيرة التي شهدتها العاصمة: من مدينة مدمرة إلى مركز إمبراطوري به جامعات ودور سينما، وحزب شيوعي ضخم، وناشطات ومتعلمات.

أسماء التوب تشكل سجلًا غير معترف به لتجارب النساء، وتدحض فكرة أن “العام” و”السياسي” حكر على الرجال. المتعة الجمالية في الموضة كانت متشابكة مع التحولات السياسية. بتوباتهن المزركشة، اجتزن النساء تعقيدات الاستعمار وزوايا الخرطوم المتغيرة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *