ليلةُ شتاءٍ طويلة

·

·

للكاتب : معاذ أبوالقاسم

(1)

تحت أطلال بيت مهجور يقع في طرف القرية أتى المخاض لـ “بيلسان”، وكانت قد هيأت المكان لإستقبال مواليدها، فخرجتْ من بطنها خمسة قطط، وحالاً تلقفوا أثدائها وامتصوها بنهم، وحينما شبِعـوا تركوها وبدأوا يجوسون المكان الضيق مُستكشفين جغرافيته، مرتعشي الجلد، مُتخبطين في مشيهم، مُغمَضين الأعين. تمددت بيلسان على الأرض وهي ترى صِغارها يدورون حولها ثم يرتمون نائمين في أحضانها مُجهدين. تنظر بيعنيها للخارج عبر فتحة ضيقة مُتفكرة في طريقة لتملأ بها بطنها كي تستطيع أن تعطي لبناً. تستبعد خيار أن تذهب لقفص طيور “السمان”، فآخر مرة كادت أن تفقد حياتها بعد أن ضبطها صاحبه، لكنها أفلتت وتفادت عصاه المقذوفة تجاهها بأعجوبة. تحسم أمرها وتخرج تجوب الشوارع؛ لكن لا شيء فيها عدا أكياس البلاستيك التي تتراقص مع الهواء والقوارير المرمية بعشوائية. تدخل لمنزل فتسمع صُراخ أحدهم وتلويح يده في الهواء مُحاولاً صدها وطردها خارجاً، فتهرب مُبتعدة. يتكرر نفس الشيء مع بقية المنازل، وفي النهاية تذهب للأطلال حيث يقطن صغارها. تجدهم جياعاً، ويلتهمون أثدائها الضامرة بنهم، لا يظفرون إلا بقطرات شحيحة لا تكفي جوعهم، فيتصايحون مُطالبين بالمزيد، تُهدئهم بيلسان بمواءها وتمسح على فرائهم الناعم بلسانها، ثم تضمهم عليها. يهدئون وينامون سريعاً، وتنظر هي مرة ثانية عبر الفتحة مُنتظرة غروب الشمس، عازمةً على الذهاب إلى السمان. إنه فصل الشتاء، والبقاء جائعاً فيه يعني الموت.

(2)

حين يغرق الجميع في نومٍ عميق تتملص بيلسان من بين أطفالها النائمين وتخرج -رغم البرد الشديد- قاصدة الأرض الغنية بالطعام. تصل غايتها سريعاً؛ فالمكان لا يبعد عنها كثيراً. تمشي بتأني وبطء حتى لا يفزع السمان، وبالتالي يأتي صاحبه وتقع في ورطة قد تؤدي بحياتها. تحني رأسها وتمده للأمام، تلتصق بطنها بالأرض وتبدأ تزحف، وعندما تقترب من الطيور تُحدد أحدهم وتهجم عليه. تقفز في الهواء وتطأ برجلها الشرك الحديدي الذي نصبه صاحب السمان، تُحاول القفز مرة ثانية لكن الشر الكامن في الأسفل يلحق بها سريعاً، يحول دون الوصول لغايتها ويمسك رجلها، يجذبها نحوه بقوة فترتمي متكومة قربة، تفزعها المفاجأة والألم الذي سببته فتموء بأعلى صوتها ورجلها الدامية بين قبضة الشرك الحديدي، فيضطرب السمان. للشرك أسنان حادة تنغرس في عظامها وتهشمهم. وفي لمح البصر تتداعى لها حياتها القصيرة التي قضتها متشردة في الشوارع، وأطفالها الذين ينتظرون قدومها وأثدائها مليئة باللبن. ثم يُغمى عليها وتهدأ حركتها.

(3)

تصحى من اغماءتها ولا تدري كم مرَّ من الوقت، ترى دمها الغزير مندلق على الأرض، وتشعر وكأن رأسها قد انتفخ من شدة الألم. تتذكر أطفالها، وتبدأ في مقاومة هذا الكابوس. تعض القضيب الحديدي بأسنانها، تُمسكه برجلها الثانية مُحاولة فتح قبضته والانفكاك منه، لكن يبوء كل ذلك بالفشل ولا يترك رجلها؛ فهي غنيمته. تحس بتقدم الوقت، وأن الصُبح قد اقترب، وذلك يعني اقتراب موتها الحتمي. تُصاب بالجنون، وتهجم على القضيب الحديدي، تعضه، تضربه برأسها، وتخربشه بمخالبها. تُحاول إخراج رجلها المأسورة بالقوة، تموء بأعلى صوتها وهي تحاول إخراجها إلى أن تنقطع، وتفر سريعاً مُخلفة آثار الدم وباقي رجلها المبتورة التي في قبضة الشرك العازم على الإحتفاظ بجزء منها طالما فشل في القبض عليها كاملة. في منتصف المسافة تشعر بالإعياء، بالوهن يصيب جسدها، وبالبرد القارص يتغلغل داخل عظامها. ضباب يغشى عينيها وتتشوش الرؤية أمامها، تعلو أنفاسها وتضطرب وتزاد ضربات قلبها. دمها المتقاطر لا يتوقف عن النزيف، ومع كل خطوة تمشيها يتملكها الإعياء أكثر. تسقط على فمها، تحتك رجلها المبتورة بالأرض، فتموء متألمة. يمر في ذهنها طيف أطفالها، فتقف من جديد، تمشي وهي تعرج وقد تدلى لسانها وعلت أنفاسها. تتمنى لو لم تُراودها نفسها بالذهاب، لو لم تدخل لهذا الجحيم. ** لقد سمعت بيلسان – عندما كانت تبلغ عدة أشهر من عمرها – عن تجمع سنوي للقطط يُقيمه مجمع الوُعاظ منتصف الليل بعيداً عن القرية، وقد ساقها الفضول كي تحضر هذا التجمع وترى ما فيه. وصلتْ متأخرة عن الموعد وقد رأت جميع فصائل القطط في ذلك الحدث، كانوا ينصتون لحديث قط ضخم البنية يرتدي عباءة بيضاء، كان يتحدث عن القط الأعظم الذي يحميهم من بطش البشر وشرور الحياة أجمع، وعليهم مقابل ذلك وكإمتنان منهم أن يقيمون الصلاة لأجله، أن يدعوه في لحظات المحن كي ينجدهم، وفي لحظات اليسر شاكرين له، كما أنه قد يتجلى لأحدهم إن كان محظوظاً ويرى وجهه الكريم.. لم تُكمل بيلسان حديث القط لأنها لم تستوعب ما يقوله وانسحبتْ راجعة لشوارع القرية. هي الآن تتذكر الحدث وتعي كل شيء. تُنادي: “أيها الخفي، أين أنت الآن يا عزيزي، لقد انفطر قلبي للُقياك، روحي متعطشة لرؤيتك وارشادك، هيا اظهر أيها الخجول، امسك بيدي وقودني للنور، فالظلام بدأ يُحكم قبضته عليّ، أشتاق لتلامس يديك الناعمة الدافئة المليئة بالحياة يديّ. أين أنت الآن”. تنهمر دموعها على خديها، يتحشرج صوتها ويخرج همساً ضعيفاً: “أنا أنتظرك، هيا استجب لنداء الغلابا واظهر، حطِّم الحاجز الذي يحجبك عني. أنا ضائعة بدون عونك. فلتأتي من قاع البِحار، من تحت الأرض، من فوق السماوات، والتقطني كقطعة حلوى لذيذة”. وكأنها في مسرح مُظلم ووحدها من تتبعها الإنارة.. عمَّ السكون كل شيء عداها، كان صوت دقات قلبها، أنفاسها، ووقع خُطاها عالياً. أحسَّتْ بالصمت الأبدي يزحف نحوها ليُأخدها. فصرخت فزعةً: “لا تدعه يأخذني.. لا تدعه يأخذني.. لا تدعه..” “آه يا للبؤس، يا للحياة المُقفرة العابسة”؛ كلمات قالها القط الأعظم بصوتٍ غليظ، وقد حلَّق طيفه فوقها مُتمثلاً في سحابة دُخانية.

(4)

ظهور القط الأعظم يوقظ فيها الأمل، يبعث الحياة داخل شرايينها، يزيل عنها الوهن وتتجدد خلاياها. يعود للأشياء من حولها صوتها المنحبس، وتبدأ بالتنفس. يدنو القط منها، يمر عبر جسدها ويلامس فرائها بهيئته السحابية فتصيبها النشوة وتشعر وكأنها في الجنة، ثم يتلاشى من أمامها. تضطرب، تفزع لإختفاءه، تناديه أن تعال وعالج جراحي. لكنها لا تحس بوجود مرة ثانية. تلتفتْ يميناً شمالاً، تدور حول نفسها، تُحاول استعادة الشعور الذي لامسها قبل قليل، لكنها لا تستيطع الإمساك به ويتلاشى هو أيضاً. تُشكك في ما حدث لها، وتتهم عقلها أنه قد ابتدع هذا الأمر كي يُعزي ويواسي روحها المُثقلة، كي يُشعرها بالطمأنينة. تغتاظ من تجمع القطط ذاك، وتشعر بالحقد تجاه الخطيب صاحب العباءة الذي كذب في حديثه ذلك اليوم، وحسناً فعلتْ بعدم اكمال بقية كلامه. فها هي قد قُطعت رجلها ولم يتدخل الإله الذي تحدث عنه كي يحول دون حدوث هذا، أن يمنع تعرضها للتعذيب والألم الذي تمر به الآن، أن يوفر لها الأكل كي تستطيع إطعام صغارها. يعاودها اليأس، وعدم جدوى حياتها، فتسقط وهي ترتعش، تصارع أنفاسها التي بدأت تنفد، وتستلم لمصابها. تسمع مواء صغيرها يتردد في أذنها، فتنتفض وتقف من جديد، تمشي نحو مخبأهم في الأطلال، وتهمهم: “العالم بائس. قاسي. لكني سوف أحميكم بكل السُبل، فوحدكم لا تستطيعون السير فيه”. وتهمس لنفسها: “عليَّ التشجع، وما هذا الجُرح إلا خدش بسيط. لمن سأترك أطفالي؛ للإله الزائف ؟!. عليّ اللحاق بهم، لا بُدَّ وأنهم جياع في هذه اللحظة”. “أمكم قريبة منكم، ها قد أتت وإن كانت خالية الوفاض، ولا تمتليء أثدائها باللبن، لكنها حتماً ستجد حلاً لهذا الأمر، فلا شيء يقف في طريقها لأجلكم، سوف تتخطى المستحيل كي تشبعكم”. تصل للأطلال، تتسلق بمشقة حجر عالي يؤدي إلى الفتحة التي يوجد خلفها صغارها، وقبل أن تتدلى منه يتوقف كل شيء فيها؛ يدركها الصمتْ، وعيونها تنظر بحنان وفاجعة نحو أطفالها.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *