محاضرة لخورخي لويس بورخيس
ترجمة: علي أرباب
الفصلان الأخيران من كتاب بول جروساك “النقد الأدبي” مكرّسان للمسألة الشكسبيرية، أو كما فضّلت أن أسمّيها هنا، لغز شكسبير. وكما ستخمنون فهي النظرية القائلة بأن ويليام شكسبير، الشخص المتوفَى في العام 1616 لم يكن أباً للتراجيديات والكوميديات والمسرحيات التاريخية والقصائد التي هي الآن مثار الإعجاب في العالم بأسره. في هذين الفصلين يدافع جروساك عن وجهة النظر الكلاسيكية، وهي الرأي الذي تشاركه الجميع حتى أواسط القرن التاسع عشر، عندما اختارت مِس ديليا بيكون، في كتاب كتب مقدمته هوثورن – دون أن يقرأه هوثورن – أن تنسب أبوة تلك الأعمال لرجل الدولة والفيلسوف فرانسيس بيكون، مؤسسُ – وإلى حدٍ ما شهيد – العلم الحديث.
أنا أؤمن بالطبع أن ويليام شكسبير، المبجّل اليوم شرقاً وغرباً، كان مؤلف الأعمال التي ننسبها له، ولكنني أود التعقيب ببضع نقاط على حجة جروساك. وفوق هذا وذاك فقد ظهر مرشحٌ جديد في السنوات الأخيرة، مرشحٌ أكثر إثارة للاهتمام من ناحية سيكولوجية، وأيضاً لنا أن نقول، من ناحيةٍ بوليسية: وهو الشاعر كريستوفر مارلو، الذي قُتل في حانة في ديبتفورد قرب لندن في العام 1593.
دعنا نتمعن، باديء ذي بدء، الحجج المضادة لأبوة شكسبير. ويمكن تلخيصها كما يلي: تلقى شكسبير تعليماً بدائياً لحدٍ كبير في المدرسة النحوية1 في مسقط رأسه، ستراتفورد. شكسبير كما يشهد صديقه ونديده الشاعر الدرامي بين جونسون لم يتوفّر إلا على “قليلِ من لاتينيةٍ وعلى يونانيةٍ أقل”. ثمة في القرن التاسع عشر من اكتشفوا، أو ظنوا أنهم قد اكتشفوا سعة اطلاعٍ موسوعية في أعمال شكسبير. وبينما هو مؤكدٌ أن قاموس شكسبير كان جباراً، حتى بالنسبة لقاموس اللغة الإنجليزية الجبار في حد ذاته، فيبدو لي أن استخدام مصطلحاتٍ من عدة علومٍ ومجالات شيءٌ، والمعرفةُ العميقة أو حتى السطحية بهذه العلوم والمجالات، هو شيءٌ آخر تماماً. وبوسعنا تذكر الحالة المماثلة في سيرفانتس. واعتقد أن من يدعى السيد باربي نشر في القرن التاسع عشر كتاباً عنوانه “سيرفانتس، خبيرٌ في الجغرافيا”.
الحقيقةُ هي أن الجمال ممتنعٌ عن الكثير من الناس بحيثُ يفضلون التنقيب عن فضائلَ للعباقرة من الرجال – وهو ما كانه شكسبير وسيرفانتس بلا شكٍ – في أماكن أخرى: في معرفتهم على سبيل المثال.
زعمت مس ديليا بيكون ومن معها أن حرفة كاتب المسرحيات كانت غير ذات أهمية في حقبة الملكة إليزابيث، الملكة البتول، وجيمس الأول، وأن سعة الاطلاع التي اعتقدوا أنهم اكتشفوها في أعمال شكسبير لا يمكن أن تُعزى لويليام شكسبير الفقير، لأن مؤلف هذه الأعمال لا بد أن يكون رجلاً موسوعياً. وقد اكتشفت مس ديليا بيكون هذا الرجل في سميِّها فرانسيس بيكون.
والحُجّة كما يلي: كان بيكون رجلاً ذا مطامح سياسية وعلمية واسعة، أراد بيكون أن يحدّث من العلم لأجل أن يقيم ما كان يسمّيه regnum hominis أو ملكوت الإنسان. وما كان ليليق بمكانته كرجل دولة وفيلسوف أن يؤلف أعمالاً درامية. ولذا فقد لجأ لمتعهد المسارح والممثل ويليام شكسبير لكي يتخذ من اسمه اسماً مستعاراً.
من حاولوا تعضيد أطروحة مس بيكون لاذوا بعلم التشفير، وهنا نجد أنفسنا في عالم القصص البوليسية، في عالم “الحشرة الذهبية” لإدجار آلان بو الذي كان ما زال طيّ المستقبل حينها.
وبرغم أن هذا قد يبدو عسير التصديق، إلا أنهم قد انكبوا على الأعمال الكاملة لويليام شكسبير بحثاً عن سطرٍ يبدأ بحرف B، يعقبه سطر يبدأ بحرف A، ثم آخر بحرف C، ثم آخر بحرف O، وأخيراً واحد بحرف N. بعبارة أخرى فقد كانوا يبحثون عن توقيعٍ سري لبيكون في أعماله. ولم يعثروا عليه. ثم تذكر واحدٌ منهم، أشدّ سخافةً – برغم من أن هذا يبدو مُحالاً – من سابقيه، تذكر أن كلمة “بيكون” بالإنجليزية تعني لحم الخنزير، وأن بيكون بدلاً من أن يوقع باسمه ولو على سبيل التشفير أو بالأحرف الأولى، فربما قد يكون فضّل على ذلك رمزاً كـhog أو swine2 _ وهو أمر غير محتملٍ بتاتاً، فما من أحدٍ قد يهزأ باسمه بهذا الشكل.
وأعتقد أن صاحب هذه الفكرة كان حسن الحظ بحيث عثر على سطر يبدأ بحرف P، يعقبه آخر لا يبدأ بـ I وإنما بـ Y، وثالث يبدأ بحرف G. فآمن أن نظريته العجيبة قد أثبتت تماماً بفضل هذا الخنزير الوحيد المُكتشف في أعمال شكسبير.
ثمة أيضاً كلمة لاتينية طويلة بلا معنى اكتشف فيها أحدهم جناساً تصحيفياً مفاده Francis Bacon sic scripit أو Francis Bacon fecit أو شيءٌ من هذه الشاكلة3. كان مارك توين أحد المنحازين للفرضية البيكونية، وقد لخص كل حججها بطرافة في كتابٍ سمّاه “هل مات شكسبير؟”، وأنا أوصي به لا على سبيل الإقناع بل على سبيل التسلية. كل هذا كما ترون مجردُ تخمين وافتراض، وقد دحضه جروساك برمته بشيء من الوقار.
لكل هذه الحجج أضيف أخرياتٍ من نوع مختلف. يتحدث جروساك عن فقر الأشعار المنسوبة لبيكون؛ ولي أن أضيف أن للرجلين عقليتان مختلفتان جوهرياً وبنحو لا يمكن تجاهله. كان لبيكون بالطبع عقلٌ أكثر “حداثةً” من عقل شكسبير، كما تمتع بحسٍ تاريخي؛ أحس أن حقبته، القرن السابع عشر، كانت مطلع عصرٍ علمي، وأراد لاستكشاف الطبيعة أن يحل في التبجيل المكانة التي تحتلها نصوص أرسطو. كان بيكون سلفاً تحدر منه اليوم ما نسميه الخيال العلمي؛ في كتابه “أطلنطس الجديدة” يروي مغامرةً لرحالةٍ يبلغون جزيرةً في المحيط الهاديء يتحقق فيها كثيرٌ من عجائب العلم المعاصر. فمثلاً: ثمة سفنٌ تسافر تحت البحر، وأخرى في الجو؛ ثمة غرفٌ يُخلق فيها على نحوٍ صناعي مطرٌ وثلوج وعواصف وأصداء وأقواس قزح. ثمة حدائقُ عجيبة تستنفد كل تنوع النباتات والحيوانات وهجائنها.
لم يكن عقل بيكون أقل ميلاً للمجاز من عقل شكسبير، وهذه نقطة التقاءٍ بينهما، إلا أن مجازاتهما على اختلافٍ كبير. لنأخذ على سبيل المثال كتاباً في المنطق، ككتاب جون ستيوارت ميل :”نظام المنطق” الذي يوضح فيه الأخطاء التي يسهل على العقل البشري الوقوع فيها. يضع ميل، مثل كثيرين غيره، تصنيفاً للمغالطات. لكي يفعل بيكون المثل يقول أن العقل البشري ليس مرآةً صقيلةً كاملة، بل مرآةٌ مقعرةٌ أو محدبة تشوّه الواقع. وزعم أن الإنسان أهلٌ للخطأ، وسمى تلك الأخطاء التي نميل للوقوع فيها “أوثاناً”، ثم شرع في تعديدها.
في مبدإ الأمر كان وثن القبيلة Idola tribus، وثناً شائعاً عند الجنس البشري بأسره. أفاد بيكون بأن ثمة عقولاً تلمح التشابهات بين الأشياء، وأن عقولاً أخرى تلمح أو تضخم من الفروقات بينها، وأن على المراقب العلمي أن يراقب نفسه، وأن يصحح من هذا الميل لرؤية الفورقات والتشابهات (الفروقات والانسجامات كما كان سيقول ألفونسو رييس). بعد ذلك يتحدث بيكون عن وثن الكهف Idola Specus. بعبارة أخرى، فإن كل امريءٍ، دون وعيٍ منه، يميل لنمط بعينه من الأخطاء. فلنتخيل رجلاُ، رجلاً ذكياُ يُعرض عليه شعر هاينه وفلسفة سبينوزا وعقائد آينشتاين وفرويد. لو كان هذا الرجل معادياً للسامية فسينكر كل هذه الأعمال، فقط لأن من أنجزوها كانوا يهوداً؛ ولو كان يهودياً أو محباً لليهود فسيميل للتسليم بها، فقط لأنه يشعر بتعاطفٍ مع اليهود. في كلا الحالين لن يُخضع هذه الأعمال لفحصِ نزيه، بل سيخضع تقديره لمحبته وكراهيته.

ثم يتحدث بيكون عن وثن السوق Idola forum؛ وهو الخطأ الذي تخلقه اللغة.
ويلاحظ أن اللغة ليست من صنع الفلاسفة بل من صنع سائر الناس. سيدافع تشسترتون لاحقاً بأن اللغة كانت من خلق صيادين وسمّاكين وأهل بادية، ولذا فهي بالأساس شعريةٌ. بكلمات أخرى، فإن اللغة لم تُخلق لتكون وصفاً للحقيقة، بل خلقها أناسٌ عفويون وحالمون: أي أن اللغة على الدوام تقودنا إلى الخطأ. لو أنك قلت عن أحدٍ أنه أصم مثلاً، ثم تشكك أحدٌ آخر في ما قلته، فسترد بالقول نعم، هو “أصمٌ كعمود”، وهذا ببساطة لأن بين يديك التعبير الملائم “أصمٌ كعمود”.
لهذه الأوثان يضيف (بيكون) وثناً رابعاً، وثن المسرح Idola teatri. يلحظ بيكون أن كل الأنظمة العلمية _ بما في ذلك نظامه الفلسفي نفسه القائم على الملاحظة و الاستقراء: أي الانتقال من الخاص للعام لا العكس _ تستبدل العالم الحقيقي بآخر متخيل، أو مبسّط على أي حال. ولذا لدينا الماركسية التي تفحص كل وقائع التاريخ وفقاً لخصائص اقتصادية؛ أو لدينا مؤرخٌ مثل بوزيه، الذي يرى يد العناية الإلهية في الصيرورة التاريخية بأسرها، أو نظريات شبنجلر، أو عقيدة توينبي المعاصرة، وكان بيكون ليقول أنه ليس ثمة واحدةٌ منها واقعية، بل كل منها مجرد مسرح، مجرد تمثيل للواقع. أضافةً لكل ذلك فإن بيكون لم يكن يُكنّ إيماناً باللغة الإنجليزية. كان يؤمن أن اللغات الدارجة لا تتمتع بالقوة، ولذا ترجم جميع أعماله للاتينية. بيكون غريمُ القرون الوسطى، آمن كما آمنت القرون الوسطى، أن ثمة لغةً عالمية واحدة هي اللاتينية.
على النقيض، شُغف شكسبير بعمق باللغة الإنجليزية، والتي هي ربما فريدةٌ بين اللغات الغربية في تمتعها بما يمكن أن نسميه صوتاً مزدوجاً. بالنسبة للكلمات الشائعة، لمعانٍ مثل طفل أو فلاح أو بحار، فهي كلمات ساكسونية الأصل، أما المسائل الذهنية فلها كلمات متحدرة من اللاتينية. هذه الكلمات ليست مترادفةً تماماً، ثمة على الدوام فوارق دقيقة بينها: أن تقول – بنحوٍ ساكسوني – dark (مظلم) ليس مثل أن تقول obscure (معتم)؛ أن تقول brotherhood (أخوّة) أمر مختلف عن أن تقول fraternity (أخويّة)_ بالنسبة للشعر، الذي هو معتمِدٌ لا على الأجواء التي يخلقها فحسب بل على دلالات هذه الأجواء بالمثل، أن تقول unique (فريد) هو أمر مختلف عن ان تقول single (وحيد).
أحسّ شكسبير بكل ذلك، وللمرء أن يزعم أن قدراً مقدّراً من سحر شكسبير متأتٍ من اللعب المتناوب بين التعابير اللاتينية والجرمانية. على سبيل المثال، عندما يحدّق ماكبث في يده الملطخة بالدماء، ويفكر أنها قد تصبغ البحار الشاسعة بحمرة الدم، جاعلةً من خُضرة ماءها حُمرة متّحدة، يقول:
Will all great Neptune’s ocean wash this blood
Clean from my hand? No, this my hand will rather
The multitudinous seas incarnadine,
Making the green one red.
أكلُّ محيطِ نبتون العظيم يغسلُ يدي
نظيفةً من هذه الدماء؟ لا، بل بالحَرِّيّ أن يدي هذه
ستصبغ البحار الزاخرة،
جاعلةً من الخضرة حمرةَ متحدة
في السطر الثالث نرى كلماتٍ لاتينية طويلة رنانة ومثقفة: multitudinous و incarandine، ثم في السطر الذي يليه كلمات ساكسونية قصيرة: green one red.
يبدو لي أنه ليس ثمة اتساقُ سايكولوجي بين عقلي بيكون وشكسبير، وهذا كافٍ لدحض كل الحجج البيكونية وشيفراتها، كل التوقيعات السرية الحقيقية والمتخيلة التي اكتشفت أو يُعتقد بأنها اكتشفت في شكسبير.
ثمة مرشّحون آخرون أفضّل التغاضي عنهم لأجل أن أبلغ أقلهم لامعقولية: الشاعر كريستوفر مارلو، الذي يُعتقد بأنه قد قُتل في العام 1593 في عمر التاسعة والعشرين، العمر الذي مات فيه كيتس، العمر الذي مات فيه إيفاريستو كارييجو، شاعر ضواحي مدننا. ولنلق نظرةً عابرةً على حياة وأعمال كريستوفر مارلو.
كان مارلو “نابغة جامعته”، أي أنه انتمى لثلّة من طلاب الجامعة الشبّان الذين تنزلّوا للشغف بالمسرح؛ علاوة على ذلك فقد برع مارلو في الشعر المرسل4 الذي سيصبح خيار شكسبير الأثير فيما بعد، وفي أعمال مارلو سُطورٌ لا تقل روعةً عن تلك التي لشكسبير. على سبيل المثال، السطر الذي أعجب به أونامونو لحدّ أن قال بأن هذا السطر الوحيد يفوق فاوست جوته بأسرها_ ناسياً ربما أن الكمال أيسر في سطرٍ واحد من عملٍ فسيح، حيث قد يكون محالاً. مثل فاوست جوته، يجد دكتور فاوستوس مارلو نفسه أمام شبح هيلين (فكرة أن هيلين طروادة كانت شبحاً أو رؤيا كانت حاضرةً عند الأقدمين) ويقول لها: “أي هيلين الجميلة، خلّديني بقبلة” ثم يقول: “يا من أنت أجمل من هواء المساء، متّشحةً جمالَ ألفِ نجمٍ”. لا يقول “سماء المساء” بل “هواء المساء”. كل فضاء كوبرنيكوس حاضر في كلمة “هواء”، الفضاء اللانهائي الذي كان من وحي عصر النهضة، الفضاء الذي ما زلنا نؤمن به بالرغم من آينشتاين، الفضاء الذي خَلَف النظام البطلمي الذي يسود كوميديا دانتي المثلثة.
ولكن لنعد لمصير مارلو المأساوي. في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر كان في إنجلترا مخاوفُ من انتفاضةٍ كاثوليكية بإيعاز من سطوة إسبانيا. وفي ذات الوقت كانت أعمال الشغب تقضّ مدينة لندن. وفي ذات الوقت، وصل إلى مدينة لندن كثير من الحرفيين الفرنسيين والفلمنكيين الذين اتُهموا بأنهم كانوا يأكلون “خبز أطفالٍ بلا آباء”5. كان ثمة نوعٌ من حراكٍ قومي ضد هؤلاء الأجانب وكان يهدد بمذبحة. في ذاك الوقت، كانت الدولة تتمتع بما نسميه اليوم “جهازاً سرياُ”، وقد كان مارلو أحد رجاله. وقد اضطهد هذا الجهاز الكاثوليك والبيورتانيين على حد السواء. اُعتقل توماس كيد، وهو كاتبٌ مسرحيٌ، وفي بيته وجدت أوراق بعينها، من بينها عُثر على مخطوطة لحوالي عشرين أطروحة، بعضها كان فاضحاً؛ إحداها على سبيل المثال تفيد بأن يسوع كان مثلياً – وكان ثمة بالمثل دفاع عن المثلية – وأخرى تنفي أن بوسع إنسان، كالمسيح، أن يكون أنساناً وإلهاً معاً. وأيضاً كان ثمة وثيقة في امتداح التبغ، والذي كان رايلي قد جلبه من أمريكا. كان مارلو من الدائرة اللصيقة برايلي، رايلي القرصان، المؤرخ، والذي سيُعدم فيما بعد، والذي كانت تنعقد في داره الجلسات التي كانت تعرف بالاسم المشؤوم: مدرسة الليل.
شخوصُ مارلو، الشخوص الذين يبدو أن المؤلف يتعاطف معهم، هم صورٌ مكبُرة لمارلو. هم ملحدون مثله: يحرق تيمورلنك نسخة من القرآن، وأخيراً وقد أخضع العالم، يرغب مثله مثل الإسكندر في أن يخضع السماوات، ويأمر بأن تُوجّه مدفعيته نحو السماء، وأن تعلّق من السماء راياتٌ سود كعلامة للمحرقة، مذبحة الآلهة: “وأن ننصب بيارق سوداء على قبة السماء” …إلى آخر ذلك. وهناك أيضاً دكتور فاوستوس، الذي يمثل شهيّة عصر النهضة لأن يعرف كل شيء، أن يطالع كتاب الطبيعة، لا طلباً للتعاليم الأخلاقية، كما كان ديدن العصور الوسطى، حينما وُضعت كتب الفسيولوجيات وموسوعات الوحوش، بل بحثاً وراء الحروف التي تألف الكون. وأيضاً “يهوديُ مالطا” الذي هو تجسيدٌ للجشع.
فُحصت وثيقة كيد من قبل الشرطة. تعرّض للتعذيب – والتعذيب ليس من اختراعات عصرنا – واعترف أو صرّح، وهو أمر طبيعي بما أن حياته كانت على المحك، بأن المخطوط لم يكن له بل كُتب بيد كرستوفر مارلو الذي تشارك معه غرفةً عندما عملا سويةً في مراجعة وتصحيح المسرحيات. كانت تفصِل في هذا النوع من القضايا محكمة تعرف بـ”الغرفة النجمية”6. أُبلغ مارلو بأن عليه أن يمثل أمام هذه المحكمة في ظرف أسبوع لكي يدافع عن نفسه أمام تهمتي الإلحاد والتجديف. ثم قبل جلسة السماع بيومين يُقتل مارلو، ويُعثر على جثته في حانة في ديبتفورد.
اتضح أن أربعة رجال، ينتمون جميعاً للجهاز السري، ذهبوا إلى الحانة وتناولوا الغداء وغفوا قليلاً ثم خرجوا ليتمشوا في الحديقة حول الحانة، وأنهم لعبوا الشطرنج أو الطاولة، لا أذكر أيهما بالضبط، ثم تشاجروا بصدد الفاتورة. أخرج مارلو سكينه (كانت السكاكين السلاح المفضل حينها)، ويبدو أنه تلقى طعنة بها في عينه، بسكينه ذاتها، ومات. والآن، استناداً لفرضية كالفين هوفمان فإن الرجل الذي قد مات لم يكن مارلو بل رجلٌ آخر، أي رجل آخر من بين الثلاثة. في ذاك العصر لم تكن ثمة وسيلة للتعرف على هويات الأشخاص، لم تكن بصمات الأصابع معروفة، كان من السهل أن يحل رجلٌ محل آخر، وقد أخبر مارلو أصدقاءه عن نيته الهرب إلى أسكتلندا التي كانت مملكةً مستقلةً وقتها. نظرية هوفمان أن مارلو انتحل للرجل الميت هويته هو، ثم فرّ إلى أسكتلندا، ومن هناك بعث إلى صديقه الممثل ومقاول المسرح ويليام شكسبير بالأعمال التي ننسبها اليوم إلى ويليام شكسبير. من أسكتلندا بعث لشكسبير بمخطوطات ماكبث وهاملت وعطيل وأنطوني وكليوباترا إلخ. ثم توفي مارلو استناداً لهذه النظرية قبل أربع أو خمس سنوات من وفاة شكسبير. والأخير، بعد أن باع مسرحه وتقاعد في مسقط رأسه ستراتفورد، نسي كل شيءً عن أعماله الأدبية وكرس لنفسه لأن يصبح أغنى رجلٍ في البلدة، مسلِماً نفسه لمتعة مقاضاة جيرانه حتى وافاه الموت عقب مسابقةٍ في الشرب مع بعض الممثلين الذين جاءوا من لندن لرؤيته في العام 1616.
الحجة التي سأرسم معالمها في مقابل هذه الفرضية هي أن مارلو رغم كونه شاعراً عظيماً وأن بعضاً من سطوره ليست غير جديرة بشكسبير _ كما أن ثمة بالمثل أسطراً عديدة لمارلو منتثرةٌ كما لو كانت ضائعةً في أعمال شكسبير _ إلا أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الاثنين. استخدم كولردج معجم سبينوزا لأجل أن يمتدح شكسبير. قال أن شكسبير كان ما يسميه سبينوزا “طبيعةً طابعة” natura naturans: القوة التي تأخذ كل الصور، التي تقبع كأنها مائتة في الصخور، التي تنام في النباتات، التي تحلم في حياة الحيوانات، والتي هي واعية باللحظة الحاضرة فحسب، والتي تبلغ إدراكها، أو وعياً بعينه فينا نحن، في البشر، “الطبيعة المطبوعة” natura naturata.
قال هازليت أن في شكسبير كل من وُجد من بشرِ في العالم؛ أي أن شكسبير امتلك قدرة أن يضاعف نفسه على نحوٍ معجز؛ أن تفكر في شكسبير يعني أن تفكر في حشد.
ألا أننا نجد في أعمال مارلو دوماً شخصيةً محورية: الفاتح تيمورلنك، الرجل الجشع باراباس، رجل العلم فاوست. الشخوص الأخرى مجرد فوائض، بالكاد هم موجودون. بينما في أعمال شكسبير كل الشخوص موجودون، حتى الشخوص العارضون. على سبيل المثال الصيدلاني الذي يبيع السم لروميو ويقول: “فقري يذعن، لا إرادتي”، عرّف نفسه على الفور كإنسان بهذه العبارة الواحدة. وهو ما يفوق إمكانات مارلو على ما يبدو.
في رسالةٍ لفرانك هاريس يكتب برنارد شو: “مثل شكسبير أنا أتفهم كل شيء وكل أحد: ومثل شكسبير أنا لا أحد ولا شيء”.
وهنا نصل إلى لغز شكسبير: بالنسبة لنا هو أحد أكثر الرجال وضوحاً في التاريخ، لكنه بالتأكيد لم يكن كذلك بالنسبة لمعاصريه. وهنا تتكرر حالة سيرفانتس. كتب لوبي دي فيجا: ” لا أحد يبلغ من الغباء أن يعجب بميجيل دي سيرفانتس.” جراسايان في كتابه “الفطنة وفن العبقرية” لا يجد خصيصةً واحدة عبقرية في الكيخوته تستحق الإقتباس، كيبيدو في إحدى رومانسياته يشير على نحو عارض لغثاثة دون كيخوته. أي أن سيرفانتس كان خفياً تقريباً بالنسبة لمعاصريه؛ وحتى إنجازه العسكري في معركة ليبانتو كان منسياً تماماً بحيث أنه اضطر بنفسه لأن يذكر الناس بأنه فقد ذراعه في تلك المعركة.
أما بالنسبة لشكسبير، ففيما عدا وسامٍ مبهم يشير لـ”سونيتاته الحلوة” فلا يبدو أنه قد لفت نظر معاصريه. ويبدو لي أن تفسير ذلك أن شكسبير كرّس نفسه بالأساس لجنس الدراما. فيما عدا سونيتاته وقصائده العارضة مثل “العنقاء والسلحفاة” أو “الحاج المشغوف”.
تؤمن كل حقبة بتفوق جنسٍ أدبي بعينه. اليوم، على سبيل المثال، يُسأل كل كاتب لم يكتب روايةً أيّان سيكتبها. (أنا نفسي أتعرض لهذا السؤال دوماً). في عصر شكسبير كان النوع الأدبي بامتياز par excellence هو القصيدة الملحمية، واستمرت هذه الفكرة حتى القرن الثامن عشر، حيث لدينا مثال فولتير، الرجل الأقل ملحميةً مطلقاً، والذي برغم ذلك يكتب ملحمةً، لأنه بدون ملحمةً لن يصير رجل قلمٍ عن حق في أنظار معاصريه.
أما بالنسبة لزمننا نحن، فهي السينما. عندما نفكّر بالسينما فإننا نفكر في ممثلين وممثلات؛ أفكر أنا – بنوعٍ من المفارقة الزمنية – في مريام هوبكنز وكاثرين هيبورن، وبوسعكم بلا شك أن تستعيضوا باسماء أكثر معاصرةً. أو أننا نفكر بمخرجين: أفكر في جوزف ستيرنبيرج، الذي يبدو لي أعظم مخرجي الأفلام قاطبة، أو أفكر مؤخراً في أورسون ويليس أو هيتشكوك: ولكم أن تضيفوا ما شئتم من أسماء. لكننا لا نفكر في كتّاب السيناريو. أتذكر أفلاماً مثل شبكة الصياد، والعالم السفلي، وشبح الوردة – والعنوان الأخير مأخوذ من سير توماس براون – إلا أنه كان لزاماً أن يموت بين هيخت قبل أيامٍ قلائل لأجل أن أتذكر أنه كان مؤلف سيناريوهات هذه الأفلام التي كثيراً ما شاهدتها وامتدحتها.
شيءٌ مشابه لذلك كان يحدث للمسرحيات في زمن شكسبير. كانت المسرحيات تنتمي لشركة التمثيل، لا للمؤلفين. وفي كل مرةٍ كانت تعرض فيها، كانت تضاف مشاهد بلمسات أكثر مواكبةً للمجريات الرّاهنة. صار بين جونسون أضحوكة الناس عندما نشر مسرحياته بكل وقار ومنحها عنوان “أعمال”. قالوا له “أيّ نوعٍ من ’الأعمال’ هذه؟ هذه مجرد كوميديات وتراجيديات”. كان ينبغي لـ”الأعمال” أن تكون أشعاراً غنائية أو ملحمية أو مَرَاثٍ مثلاً. لا أن تكون مسرحيات. ولذا فقد كان من الطبيعي ألا أن ينال شكسبير إعجاب معاصريه. لأنه كان يكتب للممثلين.
يتبقّى لغزٌ واحد. لماذا باع شكسبير مسرحه وعاد لمسقط رأسه وتناسى الأعمال التي هي الآن إحدى أمجاد الإنسانية؟ ثمة تفسير صاغه دي كوينسي وهو أن النشر بالنسبة لشكسبير لم يكن يتمثّل في الكلمة المطبوعة. لم يكتب شكسبير لأجل أن يُقرأ بل لأجل لأن تُعرض أعماله. تواصَل عرض المسرحيات وكان هذا كافياً بالنسبة له. ثمة تفسير آخر، إلا أنه سايكولوجي في طبيعته. وهو أن شكسبير كان في حاجةٍ للحافز الفوري الذي يبعثه المسرح. أي أنه حين كتب هاملت أو ماكبث كان يكيّف كلماته لتلائم هذا الممثل أو ذاك؛ كما علّق أحدهم ذات مرة أنه عندما تغنّي شخصيةٌ في عملٍ ما لشكسبير فذاك لأن ممثلاً بعينه كان يجيد العزف على العود أو أنه كان جميل الصوت. كان شكسبير في حاجة لهذا الباعث الظرفي. سيقول جوته بعد مرور زمنٍ طويل أن كل الشعر “Gelegenheitsdichtung” شعرٌ ظرفي. وشكسبير عندما لم يعد مدفوعاً بالممثلين أو بمتطلبات المسرح، لم يعد يشعر بحاجةٍ للكتابة. هذا في تقديري أكثر تفسير محتمل. يقول جروساك أن كثيراً من الكتاب أظهروا احتقارهم للأدب، أنهم كانوا امتداداً في الأدب للسطر: “باطلٌ باطل، الكل باطل وقبضُ الريح”. كثيرٌ من رجال الأدب لم يؤمنوا بالأدب. إلا أنهم جميعاً، كما يقول جروساك، عبّروا عن ازدرائهم له، وكل ما عبّروا عنه من ازدراء لا يُقارن بصمت شكسبير. شكسبير، ربّ كل الكلمات، الذي وصل لقناعة أن الأدب بلا أهمية، والذي لا ينشد حتى الكلمات التي تعبّر عن هذه القناعة؛ وهذا على وجه التقريب أمرٌ فوق قدرة البشر.
قلت سابقاً أن بيكون تمتع بحسٍ تاريخي ناصع. أما لشكسبير، وعلى النقيض، فكل الشخوص، سواء كانوا دنماركيين كهاملت، أو اسكتلنديين كماكبث، إغريقاً أو روماناً أو إيطاليين. كل الشخوص في كل أعماله العديدة، كانوا يُعاملون كما لو كانوا معاصرين لشكسبير. شعر شكسبير بتنوع البشر، لا بتنوع الحقب التاريخية. بالنسبة له لم يكن التاريخ موجوداً؛ لكنه كان موجوداً بالنسبة لبيكون.
ماذا كانت فلسفة شكسبير؟ حاول بيرنارد شو أن يعثر عليها في الحِكم المنثورة في عمله الشاسع، والتي تفيد بأن الحياة حُلم، وهم: “نحن من ذات المادة التي تُصنع منها الأحلام”؛ أو حينما يقول أن الحياة “حكايةٌ يحكيها أبله، تضجّ بالصخب والعنف، ولا تعني شيئاً”. أو قبل ذلك، حين يُقارن كل رجلٍ بممثل، وهو لعبٌ مزدوج بالكلمات، لأن الملك الذي ينطق بهذه الكلمات، ماكبث، هو أيضاً ممثل، ممثلٌ حقير “يرفثُ ويصخب في ساعته على الخشبة، ثم يصمت للأبد”. ولكن لنا أن نعتقد أن هذا لا يتفق بالضرورة مع قناعات شكسبير. بل مع ما قد تكون الشخصية التي ابتكرها قد شعرت به في تلك اللحظة. بعبارةٍ أخرى، ربما لا تكون الحياة كابوساً، كابوساً بلا معنى بالنسبة لشكسبير، لكن ربما تكون الحياة قد بدت كابوساً لماكبث، عندما رأى أن الأقدار والساحرات قد غرّرن به.
وهنا نصل للغز شكسبير الأساسي، والذي هو ربما لغز الإبداع الأدبي بأسره. أعود لبرنارد شو، الذي سُئل إن كان مؤمناً بالفعل بأن الروح القدس قد كتب الكتاب المقدس، والذي أجاب بأن الروح القدس لم يكتب الكتاب المقدس فحسب، بل كل كتب العالم. لم نعد الآن نتحدث عن الروح القدس، لدينا الآن أسطورةٌ أخرى؛ نقول أن الكاتب يكتب بتأثير من عقله اللاواعي، أو بتأثير اللاوعي الجمعي. فضّل هومر وميلتون أن يؤمنا بربة الإلهام، قال هومر، أو الشعراء الذين نسمّيهم هومر: “غنّنا أيتها الإلهة غضب أخيل”. كلهم آمنوا بقوّةٍ كانوا هم أمناء سرَها. يشير ميلتون مباشرةً للروح القدس، التي معبدها صُدور الأبرار. كلهم أحسوا أن ثمة شيءٌ في العمل أكبر من نوايا مؤلفه. في الصفحة الأخيرة من الكيخوته يقول سيرفانتس أنه لم يكن في نيته غير السخرية من كتب الفروسية. ولنا أن نفسّر هذا بطريقتين: لنا أن نفترض أن سيرفانتس قال هذا ليجعلنا نفهم أنه كان في نيته أمرٌ آخر، ولكن لنا أيضاً أن نأخذ هذه الكلمات على نحوٍ حرفيّ، وأن نعتقد أنه لم يكن لسيرفانتس هدفٌ آخر _أن سيرفانتس، بدون علمٍ منه، خلق عملاً لن تنساه البشرية. فعل هذا لأنه كتب الكيخوته بكل كيانه، وليس مثل البيرسيليس مثلاً التي كتبها بدوافع أدبية بحتة. ولم يضع فيها كل ما هو مظلم وسريّ في ذاته. ربما كان شرود الذهن أيضاً مُعيناً لشكسبير: قد يكون من المفيد أن تكون شارد الذهن قليلاً لأجل أن تكتب تحفةً أدبية. ربما تكون نية كتابة تحفةٍ فنية هي ما يثبط من الكاتب، ما يجعله يراقب نفسه عن كثب. ربما ينبغي أن يكون الخلق الجماليّ أقرب لحلم، حلمٍ لا تترصده نوايانا. وربما هذا هو ما حدث في حالة شكسبير.
وفوق كل ذلك، فإن أعمال شكسبير قد أغنتها أجيال قرائها المتعاقبة. لا شك أن كولردج وهازليت وجوته وهاينه وبرادلي وهيوجو، جميعهم قد أغنوا أعمال شكسبير، ولا شك أنها ستقرأ بطرق أخرى من قبل قراءٍ قادمين. ربما يكون هذا تعريفاً محتملاً للعمل العبقريّ: الكتاب العبقري هو كتابٌ تتسنّى قراءته بطرقٍ مختلفة اختلافاً طفيفاً أو عميقاً، جيلاً بعد جيل. وهذا ما حدث للكتاب المقدس. قارن أحدٌ ما الكتاب المقدس بآلةٍ موسيقية تُعاد دوزنتها لما لا نهاية. بوسعنا أن نقرأ أعمال شكسبير، لكن ليس بوسعنا أن نعرف كيف سُتقرأ في غضون قرنٍ، أو عشرة قرون، أو حتى، إن تواصل تاريخ الكون، في غضون مائة قرن. لا نعرف ذلك.
بالنسبة لنا فعملُ شكسبير بلا نهاية، ولغز شكسبير مجرد جزء واحد من ذاك اللغز الآخر، الخلق الفنيّ، والذي هو بدوره ليس سوى وجهٍ واحد من لغزٍ آخر: الكون.
1964م

صورة متخيلة للقاء بين بورخيس وشكسبير
________________________________________
1 كانت المدارس النحوية Grammar Schools الخيار المتاح حينها للطبقات الدنيا في انجلترا لتعليم ابنائها، وكانت تُدرّس فيها مباديء الكتابة والقراءة والحساب واللاهوت المسيحي.
2 الكلمتان مرادفتان للأولى، خنزير، مع فوارق نوعية طفيفة.
3 باللاتينية؛ هكذا كتب فرانسيس بيكون.
4 تشيع في أعمال شكسبير سمة أن يتحدث النبلاء وعلية القوم شعراً مرسلاً blank verse، وأن يتحدث العامة نثراً prose. وثمة نظريات عن ميل شكسبير لجعل شخوصه يتحدثون شعراً، أشهرها أن هذا كان يسهل حفظ المونولوجات الطويلة على الممثلين!
5 دعاية قريبة الشبه بالدعاية اليمينية ضد المهاجرين في أوروبا اليوم
6 كانت تنعقد جلسات هذه المحكمة في قاعة في قصر وستمنستر يصوّر سقفها سماءً مرصعةً بالنجوم، وهذا هو سبب التسمية.
اترك تعليقاً