للكاتبة: إسراء الريس
ولكن هذه المرة تختلف، لم أقف مودعا إلى حين، كنت يائسا ومكرها، خرجت تاركا إياها في مواجهة مصير مجهول.
ودعتها كل كتاب على حدة، حاولت أن أخبئها في مكان آمن في حال داهم الجنجويد المنزل في غيابنا، لم أصنفها حسب الكاتب أو المترجم أو الناشر كما اعتدت، لم أصنفها وفق محبتي وشغفي تجاهها، لم أصنفها بتدرج اللون أو اختلاف المقاس أو توالي سنين الإصدار، بل كنت أدسها في الصندوق الورقي الكبير بهلع من يخشى عليها من الهلاك.
حسم أبي الأمر بعد محاولات استعطاف امتدت طوال فترة تناول الإفطار القلق، أخبرني أنه لا يمكنني أن آخذ أكثر من ثلاثة كتب فقط في هذه الرحلة التي لا نعلم إن كانت ستفضي بنا إلى النجاة أو الهلاك. أنا أيضا كنت أخشى أن أحملها فجأة دون سابق إنذار وأجرها لمصير مجهول كما كنت أخشى تركها خلفي لذات السبب، شعرت بأنها مذعورة مثلي، وخائفة، على كل حال تقول الأنباء العاجلة أن لا داعي للقلق فساعة الحسم قد اقتربت.
قررت سريعاً بأنني سآخذ رواية واحدة وديوانا شعريا وكتابا، مستثنيا منها كتب الفلسفة والاقتصاد ولا علم لي عن السبب.
كان اختيار ديوان الشعر هو الأيسر، فكلانا يخشى أن يملأ الدم غرفته وسريره ومكتبته، كل الكتب مأمونة الجانب، لكنني قررت أن آخذ رواية سبق أن قرأتها، وبين ماركيز وسرماجو وأمادو اخترت يوسا فكلانا في مواجهة قرود تتمسك بمكانتها في الشجرة، حتى تتأكد من سقوطنا أو سقوطها.
أما الأخير فقد تركت له مهمة اختياري، أغمضت عيني وبدأت في التحسس عله يتمسك بي، تفاجأت بها وهي تحاول التعلق بأطرافي كصغار في ليل ممطر، وحين فتحتهما ابتسمت، كان الأكثر تشبثا، أخذته وأنا أبتسم .. حقا كل شيء يمكن أن يحدث في الخرطوم.
ودعت البقيه وأودعتهم في صندوق ورقي كبير وأنا أغلفهم بالدموع والدعوات؛
طاولتي الآن فارغة كما كانت تحلم أمي، غرفتي شاحبة الجدران، ووطني ينزف.
حملنا حقائبنا مكرهين وغادرنا منزلنا في بحري في وقت الهدنة المعلنة، كان الطريق شاقا جدا، لم تكن المشقة ناتجة فقط عن العراقيل الكثيرة وارتكازات الجنجويد التي لا تنفك عن استيقافنا في كل مرة وتفتيش أغراضنا وسلب بعضها في كثير من الأحيان، وليس لأننا كنا نسلك طرقا طويلة ومنحنية ننشد فيها الأمان، بل هي مشقة من ترك حياته ومنزله وأحلامه.. حاضره ومستقبله، وسار إلى المجهول.
كنا نطالع الشوارع التي اعتدنا تمشيطها يوميا بهلع من يخشى الفراق الأبدي، كانت شقيقتي تلتقط صورا لكل شيء أثناء ترحلنا، على الرغم من أن الجميع ظن بأن العودة ستكون قريبة، أسبوعان ربما ويدحر الجيش المتمردين لنعود ونحتفل في شوارع الخرطوم الحبيبة، طال الأمد وتحولت الأسابيع إلى أشهر والأشهر إلى سنوات وعقولنا ترفض الاستسلام لفكرة أن التمرد صار غزوا هجر وشرد الملايين.
كنا في مواسم الأعياد والإجازات الطويلة معتادين على أن نسافر لقضاء بعض الوقت في منزل جدي في إحدى الولايات القابعة خارج الخرطوم، دائما ما كنت أصاب بمعضلة الاختيار، أي حذاء سيرافقني، وأي قميص سأرتدي، وأي كتاب سأحمل، أذكر قبل ثلاثة أعوام حين غادرنا منزلنا هاربين بعد انتشار الشائعات بأن الوباء استفحل وأن البلاد ستفرض حالة الطوارئ فلم نجد بدا من الرحيل بعيدا عن الهلع الذي طال كل شيء، وقتها اكتفيت بحمل بعض الكتب كالعادة ولكننا بقينا محتجزين لما يزيد عن الشهرين، ومنذ ذلك الوقت تملكني الذعر.. صرت أخشى أن تحول الظروف بيني وبين مكتبتي، وصرت لمرات عديدة أثقل كاهلي بحمل لا أجد زمنا كافيا لمطالعته رغم احتجاجات أبي، كيف الحال وأنا اليوم أتركها في مواجهة القذائف والنيران، كان عزاؤنا الوحيد أن الأنباء تؤكد أن ساعة الحسم قد اقتربت.
كان شعور الذنب ينهشني ما إن أشاهد دوي الاشتباكات على التلفاز أو مواقع التواصل الاجتماعي، القذائف تتساقط لتحيل كل شيء إلى رماد، نظرات الرعب تملأ الوجوه، لا أحد باستطاعته أن يتنبأ بما قد يحدث، مناطق كاملة غطى عليها التعتيم، انقطعت عنها الكهرباء وشبكات الهواتف والانترنت، صرنا ننتظر لأشهر حتى يأتينا من التقى بناج من الحي يسرد علينا انتهاكات المليشيا وأحوال من بقي صامدا بلا حيلة، لا يعرف مسقط رأس غير العاصمة التي ترعرع فيها وجدوده من قبله، والبعض يملك جذورا ممتدة في ولايات بعيدة لم يزرها لعقود ولا يعرف عنها شيئا.
سقطت البلاد في هاوية لا قرار لها. إن عمق المأساة يكمن في أنه بعد كل هذا الخراب والفقد والدمار، لا يزال الموكلون بحل الأزمة يشكلون جزءا كبيرا من أساس تعقيدها، أعداد الضحايا المسجلة في ازدياد مرعب ناهيك عن الإحصائيات الحقيقية التي لا يعلم بها غير الله؛ حوادث اغتصاب جماعية، قصص مروعة كنا في السابق نظن بأنها تنتهي خارج حدود أوطاننا ولا يمكن أن تطالنا أبدا، أوبئة وأمراض لم نكن قد سمعنا بها من قبل تكالبت علينا من كل اتجاه، وبالطبع لم يستطع القطاع الصحي المتهالك من الأساس الصمود في وجه كل هذه الكوارث.
في قريتنا كان الأمان الزائف سيد الموقف، على الرغم من الذعر الذي يحكي به الناس في الأسواق أو المجالس وحتى في التجمعات العادية عند واجهات البقالات إلا أن يقينهم يخبرهم بأن رقعة الحرب مهما امتدت فلن تتجاوز العاصمة، وصلتنا أخبار انتهاكات طالت المتحف القومي، وحرائق أودت بدار الوثائق، حتى الدار السودانية في وسط الخرطوم قد طالها الدمار والتهمتها ألسن النيران، ناهيك عن الجامعات والمراكز الثقافية والمعالم الأثرية، لم يسلم شيء.
ليتنا لم نغادر، ليت باستطاعتنا أن نعود فنقضي رفقة مقتنياتنا العزيزة، أي لعنة حلت بنا لنجد أنفسنا فجأة في مواجهة مجهول أسود، بدأت أمي الإلحاح في السفر خارج البلاد، فالوضع يمكن أن يزداد سوءا، وقتها لن يفيد الندم، لكن والدي كان يرفض مجرد النقاش في الأمر مؤكدا صدق الأنباء بأن ساعة الحسم قد أوشكت لا محالة.
أذكر عندما غادرنا المنزل وفي آخر نقطة تفتيش بدأ أحد الجنجويد العبث في حقيبتي مخرجا الكتب ونظرة استهزاء تملأ وجهه، نظرت إليه نظرة فيها نفور وكراهية قابلها بغضب سألني عن الكتب مستهزأ:
انت كوز؟
رد أبي متداركا الموقف:
يا ولدي دي روايات، حكاوي ساي نحن ناس موظفين
كنا مثارا للتندر في أوساطهم لبعض الوقت، وعندما شعروا بأن لا طائل من محاولات استفزازنا تركونا لنلحق بركب الباص المغادر رفقة سرب من النازحين.
لاحقا أعدت قراءة الكتب الثلاثة لمرات غير متناهية، كانت عزائي في وحدتي وغربتي، نصيرا لي في مواجهة مستقبل مظلم، لم يكن في قريتنا مكتبات، لا شيء غير كشك جرائد توقف عن العمل بطبيعة الحال، فكل الجرائد كانت تصدر من العاصمة.
الخروج من العاصمة بات مستحيلا الآن، ازدادت الميليشيات دموية، باتوا يستخدمون المواطنين كأدرع بشرية في مواجهة الطيران الحربي، ازداد توسعهم ليطال مناطق تبعد عن العاصمة لما يزيد عن مئات الكيلومترات، انتشرت الأمراض والأوبئة والمجاعات، لا يوجد مكتبات في قريتي، لا أجد شيئا أحشر فيه أنفي في مواجهة كل هذا الرعب المطبق، بدأت عمليات التهجير تطال قرى لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات عن قريتي، لكن الأنباء تؤكد “على المواطنين التحلي بالصبر، فقد اقتربت ساعة الحسم”.
إلى أن دخل علينا خالد أحد أبناء عمومتي فزعا في صباح أغبر، كان ينادي أن أسرعوا بالخروج لا وقت لدينا فالمليشيا على حواف القرية، كنا قد جهزنا حقيبة طوارئ خبأنا فيها مقتنيات الذهب وأوراقنا الثبوتية، خرج أبي رفقة والدتي وأخواتي مسرعين بعد أن أوكل إليّ مهمة التأكد من اكتمال الأوراق وأخذ الحقيبة واللحاق بهم، ما إن أخذت الحقيبة السوداء ماركة سامسونايت وهممت بالمغادرة حتى سمعت صراخا ينطلق من الغرفة، نظرت باتجاه الصوت لأجدها في مواجهتي يملؤها الذعر، وقفت حائرا لثوان معدودة، قاطعتني نداءات خالد المتكررة بضرورة الإسراع، كان علي الاختيار.
اللوحة للفنان : Guy Denning
اترك تعليقاً