بقلم: سايمون أتر
تكمن في تجاويف لغة الدينكا، الغنية التي تتجاوز مجرد أداة للتواصل لتصبح وعاءً للحكمة، عبارات تحمل في طياتها عمقًا فلسفيًا واجتماعيًا فريدًا.
ومن بين هذه العبارات تبرز كلمة “كُون كُوج” (kuŋ kɔ̈ɔ̈c)، التي تعني “تريث” أو “تمهّل”. تُطلق هذه الكلمة لتهدئة النفوس الثائرة وتُستخدم بفاعلية في لحظات التوتر، سواء في شجار فردي بسيط أو في نزاع عشائري قد يتصاعد إلى حرب.
في هذا السياق، لا تعد “كُون كُوج” مجرد كلمة، بل هي دعوة عميقة لكبح جماح الغضب وإشارة قوية لإيقاف الاندفاع، وتوفير لحظة من التأمل قبل أن تنجرف الأمور نحو العنف. من منظور أنثروبولوجي وثقافي، تلعب “كُون كُوج” دورًا محوريًا في ثقافة الدينكا، وتعكس فهمًا فطريًا للطبيعة البشرية المتقلبة. كما تؤكد على أهمية ضبط النفس كركيزة أساسية للحفاظ على النسيج الاجتماعي، حيث يُعد الاستقرار المجتمعي والانسجام القبلي قيمتين عليًا.
ليست هذه الكلمة مجرد أمر بالصمت أو التوقف، بل هي فعل تواصلي عميق يهدف إلى إعادة التوازن المفقود، وتذكيرٌ للأفراد بأهمية السلم والعواقب الوخيمة التي قد تترتب على الانجرار وراء الغضب اللحظي. بهذه الكلمة، يعلو شأن الحوار الهادئ والتفكير العميق قبل الإقدام على أفعال قد تمزق الروابط وتُحدث شرخًا يصعب ترميمه.
في مجتمع يعتمد بشكل أساسي على القيم والتقاليد المتوارثة، تُعد هذه العبارة إحدى الآليات الفعالة لفض النزاعات. فعندما تُقال، تحمل معها ثقل التقاليد واحترام الحكماء، وتفرض وقفة إجبارية تسمح للأطراف المتنازعة بإعادة تقييم الموقف.
كما تمنح الكلمة فرصة للوسطاء للتدخل وتقديم حلول سلمية. يبرز هذا الدور الوقائي والعلاجي للكلمة مدى ذكاء الدينكا في تطوير آليات داخلية للحفاظ على السلام الأهلي.
باختصار، تمثل كلمة “كُون كُوج” قيدًا على الشر وتجسيدًا للحكمة وأداة ثقافية قوية تهدف إلى فض النزاعات والحفاظ على السلام. فهي تعيد الشخص من حالة الحرب إلى السلم، ومن الهيجان إلى الهدوء، ومن الفعل الأرعن إلى التفكير السليم.
إنها دليل ساطع على أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي حاملة للقيم التي تلعب دورًا حيويًا في تشكيل السلوك الاجتماعي.
اترك تعليقاً