للكاتب: فكي علي
بينما يقتل التفسير الظاهري النص بمحاكمته في ظرفه، وما تبديه ظواهر اللغة من دلالات، يذهب التأويل ليُشرع ألف بابٍ لفهمه و إعادة صياغة معناه لا مبناه. التفسير عندي هو عقد النية على الخروج عن قوالب اللغة الجاهزة، بينما التأويل هو تأشيرة خروج من صندوق المعقول، إلى فضاء اللا معقول، ومِن المُفكّر فيه، إلى اللا مُفكّر فيه، ومن ثٙم العزم على عدم العودة، فهو بذلك توبة نصوحا عن مواقعة التسطيح والعادية، إذ أنه ذنبٌ لا كفارة له إلا التوبة.
فالتأويل يُسلِّطُ أضواء الخيال على زوايا مُعتِمة ومنسية في رفوف المعاني المجهولة.
قد يعلم الكثير من المتعرضين لفيوضاتِ مولانا خضر بشير قدس اللّٰهُ سِره علاقته بالتصوف، حيث أنه مكاشفيّ الطريقة، بل كان ملازماً للشيخ عبد الباقي عمر المكاشفي حتى انتقل، نفعنا اللُّهُ ببركةِ ذِكْرهِ، وأمدنا بمدده، وهذا مدخلٌ جيدٌ لأتأولٙ ما تعتريهِ مِن أحوال العاشقين أثناء تداعيه لما يلاقيه في أتونِ سكرته بينما يلهجُ لسانُ حالهِ أن:
و لا تلمِ السّكرانٙ في حالِ سُكْرهِ
فقد رُفِع التكليفُ في سُكرنا عنّا
كثيراً ما استوقفني قول المرهف محمد بشير عتيق في قصيدته ‹الأوصفوك›، التي لم يجزها العبادي، فركنها عتيق وتناساها حتى نسيها النسيان، إلى أنْ جاء مولانا و سيدُنا الخضِر، فأحيا دارِس رِمّتها إبّان ضربها بعصا موسى العشق، فانفجرت منها عيونٌ وعيون:
كوكب منزه في علوك
سحرك غريب
شخصك بعيد
أو كان قريب
«أنوارو آخذه بدون سلوك» ..
لعل ما يتبادرُ إلى الذهن بعد إعمال منطق التفسير الظاهري فيما بين الأقواس هو ما تقتضيه بداهة مُسٙطّحي الوِجدان، أولئك الذين تتمنع دونهم أقفالُ البلاغة و مفاتيح شفراتها، وتجِفّ دونهم أثداؤها، فلا يستدرون حليب الأخيلة من بين فرث اللغة و لحم الصوٙر، أنّى لهم ذلك و لا تسمح غلظتهم بإطلاق العنان لخيول أخيلتهم لتسابق ريح البديع بجموح، حيث ستتوقف محصلتها عند أنوارٍ ساطعة بلا أسلاكٍ تمدها بتيار كهربائي منتظم كان أم متقطع، أما أنا فلا تروقني هذه الخلاصة، و أتوكأ في سبر أغوارها على منسأة روح خضرنا المُتولِّهة بالجمال و السحر الإلهي المهيب.
كل من له علاقة بالتصوف مطالعةً أو منهجاً حياتياً معاشاً يعلم بالضرورة أن أهله قد اصطلحوا على وسمه بـ‹علم السلوك›، لأنّهُ يقوم على تسليك النفسِ و تهذيبها ليتسنى لصاحبها الترقي في معارج الكمالات، ويسمو في مدارج الولاية، وأستٙحضِرُ في هذه اللحظة مصنف ابن قيم الجوزية الرائق ‹مدارج السالكين›، يزعم أصحاب هذا المذهب إلى أنّ المتسنمين لذروة الكمالات تكسوهم الأنوار، وتنجلي هذه الأنوار شيئاً فشيئا كلما ترقى السالك في المقامات، إذن فهذه الأنوار سمة مميزة للمنخرطين في هذا السلك، بل ومشروطة بسلوك يميز صاحبه عن دونه من الناس، فأذهب إلى أنّ المعنى من قول محمد بشير عتيق هو هذا ‹أنوارُ الموصوف صفة ذاتية فيه، و ليست مكتسبة بالمجاهدات›، و هي أنوار كمالات، يقودني هذا التأويل إلى واحدة من رقائق صاحب الحكم ابن عطاء الله السكندري: ‹مِن النّاسِ مٙن يصلُ بطاعةِ الله إلى كرامة الله، و من الناسِ من يصلُ بكرامة الله إلى طاعة الله› فبينما كرامة الأول ثمرة مجاهدة وسلوك، فإن كرامة الثاني من فضل الله عليه و‹ذلك فضل اللّٰهِ يؤتيهِ مٙن يشاء واللّٰهُ ذو الفضلِ العظيم›.”
رابط الأغنية : https://soundcloud.com/0506547464/gjx5o58z3w0m?si=d059d9c96df34b42b4d03b7ad329d5ee&utm_source=clipboard&utm_medium=text&utm_campaign=social_sharing
الصورة للفنان : عماد عبدالله
اترك تعليقاً