تبرز العسكرة في الحرب الحالية في السودان كمنظومة عنف وأداة لصناعة هوية محددة للرجل السوداني—هوية تتجذر في القوة والسيطرة وتُعاد إنتاجها عبر مؤسسات الدولة والمجتمع. بهذا المعنى، تصبح العسكرة أداة لإعادة تشكيل الخيال الجمعي حول “الرجل الحقيقي”،ذلك الذي يُقاتل، يُهيمن، ويوفر “الحماية”، وهي حماية مشروطة بتبعية الآخر—المرأة. هذا النظام يُقصي النساء باعتبارهن غير مؤهلات للعنف وفي مستوى آخر بوجودهن المهدد لترتيب هرمي مبني على تفوق الذكورة.
إذًا،ما تُنتجه العسكرة يمثل بنية سياسية وثقافة كاملة تُعيد إنتاج الرجل كمركز وجودي، وتقصي المرأة كموقع محتمل للمقاومة أو التهديد.وهنا ثمة ضرورة ملحة لتفكيك كيف تنتج العسكرة “الرجل السوداني”كنموذج سلطوي؟وما أثر ذلك على الأدوار الجندرية بعد الحرب؟
العسكرة وصناعة الرجل السوداني كمعيار للسلطة
نقصد بالرجل السوداني في سياق العسكرة مفهومًا قيميًا، يُستثمر فيه الخيال القومي والسلطة.الذي تشكلت صورته منذ الاستقلال في هيئة”الرجل الحاكم” و”الرجل المجاهد” و”الرجل الحامي” بوصفها نماذج يُعاد إنتاجها عبر الإعلام، المؤسسة العسكرية، وحتى الثقافة الشعبية.والتي نجد أنها تصاعدت، ليُصبح عبر هذه الرموز الرجل هو من يُعرّف المجال العام؛هو المُفاوض، القائد، والمُحرر. مقابل ذلك، تُختزل النساء في خانة “الناجيات” أو “الضحايا” و”ربات البيوت”، في إعادة إنتاج لنمط سردي يُقصي المرأة من دوائر الفعل والقرار.
لتُصبح العسكرة آلية لتطبيع الذكورة كقوة شرعية،تصير خلالها القدرة على القتل أو البقاء في ساحات المعركة مؤهلًا للقيادة السياسية والاجتماعية.وبالطبع تُقصى النساء لأنهن لا يُجسدن العنف المطلوب، لا يُمثلن الأسطورة القومية المرتبطة بالسلاح، ولا يُمكن لهن أن يُجسدن هوية الرجل السوداني التي صُنعت عسكريًا.والتي أعتقد أننا مطالبين بمساءلتها وتفكيكها ولماذا تعتبر تهديداً لوجود النساء كفاعلات في الشأن العام؟
العنف العسكري وإقصاء النساء من الفضاء السياسي
العنف، بوصفه لغة العسكرة تنتقل ممارسته على الأجساد إلى الرموز والمعاني.ليقصين النساء اللواتي كن فاعلات سياسيًا في لجان المقاومة أو المنظمات القاعدية بعد الحرب،لأن حضورهن يتعارض ببساطة مع السردية الجديدة للسلطة، التي تعيد بناء المجال السياسي عبر رموز عسكرية وذكورية تتفجر حتى في الأجسام السياسية والمدنية التي لطالما أخفت بنيتها الذكورية الفجة. لنرى في مفاوضات السلام(في تاريخنا الحديث كله)، تُدار من قِبل رجال يرتدون البزات العسكرية، يُمثلون طرفي النزاع، بينما تغيب النساء اللائي عشن الحرب، ونازلنها من مواقع اجتماعية واقتصادية صلبة وصنعن السلام بحضورهن المهيب في تخليقه..
لكن يصير العنف الجنسي سلاحًا ماديًا ورسالة رمزية تقصد تفكيك الفاعلية السياسية للمرأة. وتفهم كل محاولات قهرها وإستغلالها في الحرب الحالية، كإستراتيجية ممتدة لمعاقبتها على تخطي الدور المرسوم لها داخل منظومة العسكرة والذكورة وتحجيمها.وهكذا يُعاد إنتاج الرجل السوداني كمرجع للأمن والسيادة، بينما تُعاد النساء إلى موقع الصمت والهوامش..
خلق مركزية الرجل..
إحدى أخطر نتائج العسكرة هي قدرتها على إعادة هندسة المجتمع حول مركزية الذكر، بحيث تُعاد صياغة العلاقات الاجتماعية لتُناسب البنية الهرمية للسلطة.وتُقدَّم الحرب كمساحة اختبار للرجولة، وتُمنح النياشين الثقافية والاجتماعية لمن نجا أو قاتل، بينما تُقمع سرديات النساء.لنجد مثلاً من تزوجن قسرًا للحماية، أو اعتُقلن، أو تعرضن لعنف جنسي، يُجردن من “الكرامة الاجتماعية”، ويُنظر إليهن ككائنات فقدت أهليتها للانتماء.
الرجل هنا من يملك السلاح ومن يُحدد من هو “الشريف”، و”العفيف”، و”المقبول اجتماعيًا”.لترى المرأة التي كانت فاعلة في الحياة العامة قبل الحرب تُجبر على التراجع بعد الحرب، لأن العسكرة تعمل على هندسة الذاكرة لتُمجد صورة رجل الحرب وبهذا تُهمش صوت النساء، حتى لو كن هنّ من نظمن شبكات التضامن وقت القصف وكن أطواق النجاة في هذا الغرق والمحرقة الجماعية العبثية..
الاقتصاد كأداة ذكورية لإعادة الهيمنة
بفحص بنية الإقتصاد السوداني تتلمس هذه الفحولة في مكامن مختلفة،لكن بصورة خاصة تُفرز العسكرة بنية أخرى تُقصي النساء، عبر توجيه الموارد لإعادة بناء المؤسسات المرتبطة بالعنف (الجيش، الشرطة، الأمن) على حساب القطاعات الاجتماعية-تقديم أسئلة الأمن على أسئلة التنمية والعدالة الاجتماعية-
بحسب هذا النظام، يُمنح الرجل السوداني أدوات السيطرة الاقتصادية—مشاريع إعادة الإعمار، عقود الدولة، النفوذ المالي—بينما تُترك النساء لاقتصاد البقاء،الأعمال الحرة، الغُربة داخل المخيمات، والعمل غير الرسمي والرسمي في مستوى تنفيذ القرارات/التفاعل..
وهنالك تجرد المرأة التي تتعرض للعنف أو الاعتقال من رأس المال الاجتماعي وأدوات الإنتاج أيضًا.ليصبح حضورها في السوق مُهددًا بالوصمة، وتُمنع أو يعمق منعها ليصير مركباً،من التملك أو الدخول في شبكات النفوذ.ومرة أخرى، يُعاد تعريف الرجل السوداني كـ”منتِج”، و”معيل”، و”صاحب القرار”، بينما تُقصى النساء إلى هامش الاقتصاد، حتى عندما يكنّ المُعيلات الفعليات لأسر بأكملها قبل وخاصة طوال فترة..
العدالة كآلية تفكيك
في ظل هذه المنظومة، لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية دون تفكيك مفهوم الرجل السوداني كمركز للسلطة. العدالة التي تتضمن محاسبة الجنرالات لابد أن تشتغل على هدم البنية الرمزية التي جعلت من العنف معيارًا للشرعية، وجعلت من النساء “مستثنيات” من العقد الاجتماعي.ونحتاج فيها بالأساس،إلى إعادة تعريف من هو المواطن، ومن يستحق المشاركة، ومن يملك الحق في السرد..
بمعنى آخر، يجب أن تُعاد كتابة مفهوم “الرجل السوداني” نفسه، كفاعل ضمن شبكة متنوعة من الذكورة والأنوثة والإنسانية وهنا لابد أن نتخيل في الحل/العملية/المعالجة النساء اللائي خلقن الحياة في المخيمات، أسسن التعاونيات، قاومن وصمة الاغتصاب والموت،أن يكنّ جزءًا من كتابة هذا المستقبل كصاحبات رؤية..
ونفهم بشكل جاد نحن الرجال الفاعلين في الشأن العام،المدنيين خاصة،أن العسكرة تهديد على النساء يمتد إلى إمكانية بناء مجتمع ودولة تسع الجميع.وأن إعادة إنتاج “الرجل السوداني” كمعيار لكل شيء—القوة، الشرعية، الإنتاج، الحماية—هي جريمة ثقافية لا تقل فتكًا عن الرصاص.
إذًا، العدالة في مقاومتها للسلاح تقاوم رمزيته. وتحرير هذا البلد الساحر من عسكرة الحياة يتطلب تحريره من مفاهيم الرجولة الضيقة، لصالح مجتمع تعاد فيه السلطة للناس—جميع الناس، رجالًا ونساءً كصانعي معنى..
اترك تعليقاً