كيف تتسنَى الهلاوِس؟ (I)

·

·

, ,
دماغٌ في إناء (١)
ترجمة: علي أرباب

فلنفترض أن علماءَ أشراراً استأصلوا دماغك من جسدك بينما كنت نائماً، وضبطوه بنظامٍ داعم للحياة في إناء. ولنتفرض أنهم عمدوا بعد ذلك لإيهامك بأنك لست مجرد دماغٍ في إناء، وأنك ما زلت تصول وتجول، منغمساً في أنشطة (جسدية) معتادة في العالم الحقيقي.

هذا الكليشيه المُكرر (دماغٌ في إناء) هو تجربةٌ ذهنية أثيرة في جراب فلاسفةٍ عديدين. وهو نسخة معاصرة من شيطان ديكارت (١٦٤١)؛ وهو حاوٍ متخيل مصمم على خداع ديكارت بصدد كل شيء، بما في ذلك وجوده ذاته. ولكن كما لاحظ ديكارت، فحتى شيطان بقوىً لا متناهية لا يقدر أن يوهمه بالاعتقاد بوجوده هو ذاته إلم يكن موجوداً: cogito ergo sum, “إنني أفكر، إذن فأنا موجود.”

فلاسفة اليوم أقلُ انشغالاً بإثبات وجود المرء كذات مفكرة (ربما لأنهم قرروا أن ديكارت قد حل المسألة على نحوٍ مُرضٍ) وأكثر انشغالاً، من حيث المبدأ، بما يمكن أن نستخلصه من تجربتنا عن طبيعتنا الخاصة. وعن طبيعة العالم الذي (على ما يبدو) نعيش فيه. هل من الممكن ألا تكونَ غير دماغٍ في إناء؟ هل من الممكن أنك كنت على الدوام مجرد دماغٍ في إناء؟ وإن يكن، فهل بوسعك حتى أن تتصور محنتك هذه؟ (ناهيك عن أن تستوثق منها)؟

فكرة (الدماغ في إناء) سبيلٌ واضح لاستكشاف هذه الأسئلة، إلا أنني أود أن أوظف هذا الكليشيه القديم توظيفاً آخر. أود استخدامه في كشف بعض الحقائق الغريبة بخصوص الهلاوس، وهو ما قد يمهد طريقنا لبدايات نظريةٍ – نظرية تجريبية علمية جديرة بالاحترام – للوعي البشري.

من الجلي في التجربة الذهنية المعيارية أعلاه أن العلماء المذكورين سيجدون أنفسهم منشغلين بإمداد النهايات العصبية لكافة حواسك بالمحفزات الملائمة بالضبط لتحقيق الخدعة. إلا أن الفلاسفة قد افترضوا جدلاً أن هذه المهمة مهما كانت متعذرة تقنياً فهي “ممكنة من حيث المبدأ”. على المرء أن يرتاب من هذه “الممكنات من حيث المبدأ”، من الممكن أيضاً من حيث المبدأ صنع سلمٍ من الفولاذ يصل إلى القمر، وكتابةُ كل الحوارات الممكنة باللغة الإنجليزية بالترتيب الأبجدي ما لم تتجاوز أيٌ منها الألف كلمة. ولكن كلا الأمرين أبعد ما يكون من الإمكان في الواقع. وفي بعض الأحايين قد تكون استحالة واقعية أكثر إثارة للاهتمام من إمكانٍ نظري، كما سيتضح لنا.

فلنأخذ لحظةً إذن في تأمل كم هي مهولةٌ المهمة التي تنتظر هؤلاء العلماء الأشرار. بإمكاننا تخيلهم يبدأون من المهام السهلة وصولاً لتلك الصعبة. يشرعون في العمل على دماغ في غيبوبة، محفوظٍ على قيد الحياة، ولكن محرومٍ من كل المُدخلات من أعصابه البصرية والسمعية وبقية أعصاب الجسد والواردات الحسية. من المفترض في أحايين أن دماغاً “لا-حسياً” كهذا سيبقى في غيبوبة أبدية بطبيعة الحال، وبدون حاجة للمورفين لإبقاءه خاملاً، إلا أن ثمة أدلة تجريبية تشير لأن “يقظة تلقائية” قد تحدث حتى في هذه الظروف القاسية.

أعتقد أن بامكاننا افتراض أنك لو أفقت في حالة كهذه فستجد نفسك تحت نير قيودٍ مروعة: أعمى، أصماً، مخدراً بالكامل، وبدون إحساس بوضع جسدك في الفضاء من حولك. وحتى لا يتملكك الفزع إذن يرتب العلماء لإيقاظك ببث موسيقى محيطية (مشفرة على نحوٍ ملائم كنبضات عصبية) في أعصابك السمعية. ويهيؤن بالمثل للإشارات القادمة من جهاز التوازن في أذنك الداخلية أن توحي بأنك مستلقٍ على ظهرك. فيما عدا ذلك فأنت، مشلول وأعمى ومخدر الجسد. كل هذا يفترض أن يغدو متاحاً ضمن حدود التقنية الحِرَفية في المستقبل القريب، بل ربما هو متاحً اليوم. من الممكن إذن أن يشرعوا بعد ذلك في تحفيز المسارات التي كانت تغذي بشرتك، وأن يمدوها بالمُدخلات التي كان يحدثها في الظروف العادية شعورٌ عام ولطيف بالدفء، في الجزء الأمامي (البطني) من جسدك.

وعلى سبيل الحذلقة يمكن أن يحفزوا أعصاب البشرة الخلفية (الظهرية) بطريقة تحاكي الملمس المدغدغ لحبات الرمال وهي تضغط على ظهرك. “عظيم” تقول لنفسك “ها أنا ذا، مستلقٍ على ظهري في الشاطيء، مشلولً وأعمى، ومصغٍ لموسيقى بالغة الجمال، لكنني على الأرجح معرض لخطر أن تلهب جلدي الشمس. كيف وصلت إلى هنا؟ وكيف أطلب المساعدة؟” لكن لنفترض الآن أن العلماء بعد أن أنجزوا كل هذا، عمدوا لمجابهة المشكلة الأصعب: إقناعك أنك لست مجرد حبة بطاطس على الشاطيء، بل فاعلٌ قادر على الانغماس في شكل من الفاعلية في العالم. ابتداءً بخطوات صغيرة يقررون رفع بعضٍ من حالة الشلل عن جسدك الشبحي وأن يسمحوا لك بأن تحرك سبابتك اليمنى قليلاً في الرمال.

يسمحون إذن بحدوث الخبرة الحسية المقترنة بحركة إصبع من خلال إمدادك بتغذية حسية لمسية وحركية متساوقة مع إشارات الحركة الإرادية المنبعثة من الجزء الفاعل (الصادر) من جهازك العصبي. ولكن ينبغي أيضاً أن يدبروا أمر إزالة الخدر من هذا الإصبع الشبح، وأن يحفزوا فيه الإحساس الذي ستبعثه حركة الرمال (المتخيلة) من حوله. فجأة سيُجابَهون بمعضلةٍ ستفلت بسرعة من زمامهم؛ شعورك بحركة الرمال معتمدٌ على كيف ستقرر أن تحرك إصبعك. معضلة حساب التغذية الحسية الراجعة لدماغك وتوليدها أو توليفها، ومن ثم (عرضها) أمام دماغك في (الزمن الواقعي) ستكون

محالةً حسابياً حتى على أسرع الحواسيب، وإذا قرر العلماء الأشرار أن يحلوا مشكلة (الزمن الواقعي) عن طريق إجراء الحسابات سلفاً وتغطية كافة إحتمالات الاستجابات الممكنة، فسيكونون فحسب قد استبدلوا مشكلة لا حل لها بأخرى مثلها: الإحتمالات الممكنة أكثر من أن تُعد سلفاً، وباختصار، فإن علماءنا الأشرار سيبتلعهم (انفجارٌ تباديلي)* بمجرد أن يحاولوا منح دماغك أي قدرة على استكشاف هذا العالم الخيالي.

دانييل دينيت- الوعيُ مفسراً

________________

*تعبير “الإنفجار التباديلي” مصدره علم الحاسوب، إلا أن الظاهرة معروفة قبل ظهور الحواسيب بكثير، على سبيل المثال حكاية الإمبراطور الذي يقبل أن يكافيء الفلاح الذي أنقذ حياته بحبة واحدة من الأرز توضع في المربع الأول من رقعة شطرنج، ثم اثنتان في المربع الثاني، فأربع في الثالث وهكذا، بمضاعفة الكمية لكل من المربعات الأربع وستين. وينتهي به الأمر مديناً للفلاح الماكر بملايين المليارات من حبات الأرز (على وجه التحديد اثنان مرفوعة للقوة ٦٤ مطروحاً منها واحد). قريباً من مثالنا هذا محنة الروائيين الفرنسيين العشوائيين Aleatoric برواياتهم التي يقرر فيها القاريء الفصل الذي سيطالعه بعد الفصل الأول برمي عملة نقدية؛ هل الفصل الثاني ألف أم باء، ثم هل الثالث ألف ألف أم ألف باء أم باء ألف أم باء باء. وهلم جرا.

يُدرك هؤلاء الروائيون بسرعة أن من الأفضل لهم تقليل عدد الخيارات لو أرادوا تجنب انفجار تباديلي قصصي، يجعل من حمل الكتاب أمر مستحيلاً.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *