ترجمة: علي أرباب
لعبة جماعية إسمها التحليل النفسي (١)
في هذه اللعبة نُخبر شخصاً (وهو الضحية) أنه عند خروجه من الغرفة، سيحكي أحدُ الحاضرين آخر أحلامه. وهكذا سيعرف الحاضرون جميعهم ما عدا الضحية حبكة الحلم، وينبغي عليه عندما يعود للغرفة أن يستجوبهم عن الحلم المحكي مكتفياً فقط بأسئلة إجابُاتها من نوع نعم/لا. وعندما تتضح له سردية الحلم بتفاصيل كافية يشرع في تحليلٍ نفسي ل(شخصية) الحالم، يكتشف من خلاله (هويته).
بمجرد خروج الضحية يشرح صاحب الدار لبقية المجموعة أنه لا داعٍ لأن يحكي أحدٌ أي حلم، وأن على المجموعة أن تجيب على أسئلة الضحية استناداً لهذه القاعدة البسيطة: إن كان آخر حرف من آخر كلمة من سؤال الضحية يقع في النصف الأول من الأبجدية فستكون الإجابة بنعم، وستكون الإجابة في ما عدا ذلك بالنفي؛ فيما عدا استثناء واحد، سنطبق (قاعدة تجاوز) تمنع أن تتناقض الإجابات، وذلك بألا تناقض إجابة متأخرة أي إجابة سابقة لها.
على سبيل المثال:
س: هل الحلم يتعلق ببنت؟
ج: نعم.
ولكن إن سألت ضحيتنا ضعيفة الذاكرة لاحقاً
س: هل ثمة أي إناث في الحلم؟
ج: نعم
(بالرغم من أن آخر حرف في السؤال يقع ضمن النصف الأخير من الأبجدية، لكننا سنطبق قاعدة التجاوز)*.
وعندما تعود الضحية وتبدأ في طرح أسئلتها تتلقى سلسلة من الإجابات العشوائية لحد ما، أو العفوية في أحسن الأحوال. وعادة ما تكون النتائج مسلية. في بعض الأحيان تنحرف اللعبة بسرعة نحو العبثية، كما قد يحدث مثلاً لو كان أول سؤال تطرحه الضحية: “هل حبكة الحلم مطابقة حرفياً كلمةً فكلمة لمسرحية هاملت؟” أو مثلاً “هل ثمة أجسام متحركة في هذا الحلم؟”.
لكن في الغالب ما تنتج عن اللعبة قصة حلم غريبة أو حتى قصة فاضحة عن مغامرة سخيفة وغير معقولة. وحينما تقرر الضحية أن صاحب هذا الحلم كائناً من كان ليس سوى شخصٍ مريضٍ ومعقد، تجيبه المجموعة بابتهاج أنه هو شخصياً مبتكر قصة هذا “الحلم”.
بالطبع ليس هذا صحيحٌ تماماً، من ناحية؛ الضحية هي مؤلف الحلم بفضل خياراتها في الأسئلة التي أُلهمت بطرحها. (لا أحد غيرها اقترح وضع ثلاث غوريلات في قارب مع راهبة). ولكن من ناحية أخرى؛ فهذا الحلم لا مؤلف له، وهذا هو بالضبط مغزى اللعبة.
نرى هنا معالجةً لإنتاج حبكة ومراكمةً لتفاصيلها دونما نوايا تأليفية على الإطلاق _ سحرٌ بدون ساحر.
تحمل بنية هذه اللعبة شبهاً صارخاً ببنية عائلة بعينها من النماذج المتبناة لتفسير الأنظمة الإدراكية.
من المعروف جيداً أنه لا يمكن تفسير البصر البشري على سبيل المثال باعتباره مجرد معالجة “أمينة” أو “حرفية” للبيانات بل يتطلب على الأقل معونة دورات متوالية من اختبار فروض مُسبقة “مدفوعة بالتوقع” (أو ما يشبه اختبار الفروض). فردٌ آخر من هذه العائلة هو نموذج الإدراك القائم على “التحليل عن طريق المزج” والذي يفترض أيضاً أن المُدركات الحسية تتشكل من خلال عملية تنسج – جيئةً وذهاباً – بين التوقعات المرتقبة من جهة وتأكيدات (أو نفي) هذه التوقعات من جهة أخرى (راجع نايسر 1967، Niesser). المبدأ العام وراء هذه النظريات هو أنه بعد قدر معين من المعالجة “المرتجلة” المبكرة للمدركات في الأجزاء الطرفية من النظام الحسي، تكتمل المعالجة الإدراكية – التعرف على أغراض وتصنيفها – من خلال دورات من التوليد والاختبار. في دورة كهذه تشكل توقعات المرء واهتماماته الحالية فرضية يعمل نظامه الإدراكي على تأكيدها أو نفيها، ويُتوَّجُ تسلسلٌ سريع من هذه الفروض وتأكيداتها بالمُنتَج النهائي؛ نموذجُ مستمرُ التحديث للعالم المحيط بهذا المتلقي.
تشجع اعتبارات عديدة، بيولوجية وابستمولوجية على تبني هذه النماذج عن عملية الإدراك، وبينما لن أجازف بالقول أن أياً منها تم إثباته، إلا أن التجارب المجاراة بناءً عليها كانت موفقة لحد كبير. وبلغت الجرأة ببعض المنظرين حد الزعم بأن عملية الإدراك قائمة بالضرورة على هذه البنية الجذرية.
أياً كانت نتيجة الحكم النهائي على نظريات التوليد والاختبار الإدراكية هذه، يظل بإمكاننا أن نلحظ كيف أنها تدعم تفسيراً بسيطاً وناجعاً للهلاوس.
لكي ينزلق نظام إدراكي طبيعي لوضع الهلوسة كل ما علينا افتراضه أن يعمل جانب توليد الفروض في الدورة الإدراكية بكفاءة.
بينما ينطلق جزء التأكيد من في دورة مضطربة أو عشوائية من التأكيدات أو نفيها، كما حدث بالضبط في لعبتنا الجماعية. بعبارة أخرى، لو تضخم أي “ضجيج” في قناة البيانات ليبلغ مستوى أن يكون تأكيداً أو نفياً حسياً (ما يقابل إجابات نعم ولا الاعتباطية في لعبتنا)، فإن التوقعات الراهنة للضحية، ومخاوفها، وما هي مهووسة به، كل هذا سيقود لصياغة افتراضات حسية مسبقة (ما يقابل الأسئلة في اللعبة) تعكس هذه الاهتمامات؛ وبالتالي تتولد في النظام الحسي “قصة” لا مؤلف لها.
لا نحتاج لافتراض أن القصة معدَّة سلفاً؛ ولا نحتاج لافتراض أن معلوماتها مخزنة في الجزء الذي يلعب دور “الساحر” في الدماغ. كل ما نفترضه ببساطة أن الساحر يعلَقُ في حالة تأكيدية اعتباطية بينما تقدم الضحية محتوى الهلوسة من خلال الأسئلة التي تطرحها. يكشف هذا بأكثر الطرق مباشرةً الرابطة بين الحالة العاطفية للمُهلوِس ومحتوى الهلوسة الناتجة في آخر الأمر. عادةً ما يقترن محتوى الهلوسة بالهموم الراهنة للمهلوس، وهذا النموذج ينطوي على هذه الخاصية دون الحاجة لتدخلٍ من راوٍ داخلي عليم غير معقول ولديه نظريته الخاصة عن سايكولوجية الضحية.
لماذا على سبيل المثال في آخر يوم من موسم صيد الغزلان (يرى) الصياد غزالاً مكتملاً بقرونه وذيله بينما هو في واقع الحال (ينظر) لبقرة سوداء أو صياد آخر في سترة برتقالية؟ لأن السائل داخله لا يكف عن التساؤل على نحو موسوس: “هل هذا غزال؟” ويظل يحصل على إجابة “لا”، حتى تتضخم عن طريق الخطأ في النهاية “ضجة” صغيرة طارئة على النظام لتغدو “نعم” لها عواقبها الكارثية.
_________
*ترجح الإختبارات العملية للعبة أنها تميل لإبداع قصة جيدة إذا زادت إجابات التوكيد قليلاً على إجابات النفي، عن طريق وضع الحد الفاصل في الأبجدية بين إجابتي نعم ولا بين حرفي pوq. [النص الأصلي بالإنجليزية_المترجم]
دانييل دينيت، الوعيُ مُفسّراً
اترك تعليقاً