كونشيرتو في حب الإذاعة 

·

·

للكاتب : فكي علي

حكى الخال تاج السر الملك في إحدى إلياذاتِهِ العتيقة وهو سيّّدُ الحَكّائين قاطِبةً فقال:”ولكنّ شقيقتي الكُبرى كانت أمّاً في مهمةٍ أخرى، كانت في مهمةٍ مجيدةٍ لتصنَعَ رجلاً تناديه ‹السر أخوي›، فأخذتني بالشِدّةِ والحزمِ تارة، وتارةً بالنصح، وفي لحظاتِ الإنشراح كنا نغنّي جميعاً وبصوتٍ واحد ‹لما يطللللللل في فجرنا ظاااااااالم›، شيءٌ مّا في صوتِ ‹محمد الأمين› كان يضُمّنا جميعا” .فهل يحتاج سِحرٌ كهذا لتوطئة! لا واللّٰهِ، فـ”إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”. في ليلةٍ من ليالي شتاء العام ‹٢٠٠٨›، وبينما كنت أستمتع ببث الأغنيات عبر أثير إذاعة البيت السوداني ‹FM100›، ذلك البيت الذي شلب قلبي من بيت الإذاعة الأم، إذا بشرحبيل أحمد يتغنى بكلمات همس الشوق، ولكن بلحن مختلف، أنستني الدهشة جمالها، كيف ومتى ولماذا يغنيها؟! ولم يهدأ لي بال حتى عرفت أصل قصة الأغنية العجيبة، فعلمت أن شرحبيل هو أول من تغنى بها، ومن ثم محمد الأمين، وقد علل ذلك بأنه لم يكن يعلم أن شرحبيل أحمد قد تغنى بها، وكلما سمعتها حمدت الله ألف مرةٍ أنه لم يسمعها قبلاً. لم يضق الرائع صاحب عم التنقو ذرعا بما حدث، فترك الأغنية عن طيب خاطر وفصل لحنها على كلمات منحته أياها زوجته الفنانة الرائعة زكية عبد الله ‹تعال يا ليل خليك معايا›. في بواكير الصبا كنا نفيقُ مع شقشقات الزرازير والحمام والقمري والباليب وصوت محمد مرغني صادحاً ‹كل زهور زيك عبيرا .. وفايحة بالشوق والهيام .. وكل عطور إنت بتريدا .. شايلة ليك مِنِّي السلام› منبعثاً من الراديو المعلق في باب المطبخِ، أذكر كل ذلك وأنا متكئٌ على ذات العنقريب الهبّاب، وما زال المذياع في مكانه المعهود منذ وِلدت، وكأنه نقشٌ في جدارِ الزمن يأبى أن ينمحي، بعَدَ الظهيرةِ بقليل وبينما كان الرذاذ يُغازِلُ طين فنائنا الفسيح، ليعودَ علينا برداً وسلاماً ودُعاشاً زكيّاً، إذا بطيورِ الجَنّةِ البديعة تتجمعُ حولَ التيبار، علها تحظى برشفاتٍ مِن ماءِ اللقّاي العذب الزلال، فما كان منّي إلا وأنْ تذكّرتُ مقطوعتي المُفَضّلة، والتي سميتُها وفاءً لطفولتي التي سرقتها الأيامُ في خِلسةٍ مِن بابِ النسيان الموارب بطير الجنّة، فاستغرقتُ في جمال المشهدِ بُكُلّيتي، فكُنتُ ابن ماء السماء لبرهة، ثمّ فَرّطْتُّ في جوهرِ اللحظةِ لحظةَ أن خطر لي تجميدها في لقطة، لأستعيد ما غسلتهُ الثورة من حُزنٍ قديم، كُنتُ بثثتُ شكواهُ بينكم ذات نكبةٍ ولغوب. كنت مع الصديق عبد العظيم البنا، فأتت سيرة طير الجنة فقال لي حتى الآن وكلما شاهدت هذه الطيور العجيبة لا يساورني أدنى شك في انها آتيةٌ من الجنة تحقيقاً لا تعليقا“، كان صوت المذياع عالياً، لقد ارتبطت هذه المقطوعة عندي بهذا الفصل من العام، وبهذا الوقت من اليوم، وبهذا المشهد، ولذا فقد كنت أسميها بطير الجنة. كان البرنس “أبو حميد ود خالي محمدين” يأتيني صائحاً ‹علي طير الجنة طيرة الجنة› يقصد المقطوعة الموسيقية البديعة، وكنت أسرع لأتكوم على ذاتي في الأرض منصتاً إليها بكل حواسي كما أفعل الآن. بعد أن تنطوي تلافيف الذكريات ينبجس علي إبراهيم اللحو ليحمِلني على صهوةِ صوتِهِ العذب في مشوار الزمن الغريب، تالِياً على فؤادي حِكمتهُ العجيبة، بعد أن نفض عنها غبار المكتبة الصوتية العتيقة لزمنِ الغناء الجميل:يا المِنّو ما بنِتخلاالبينا زاد ما قلاوانا صبري طول أرض اللهشيلة خطاك من الله ،،وهكذا أتى الموصلي مُنشِداً أمانيه السندسية مِن ذات الرف القديم في الإذاعة، ومازلتُ في انتظار الحنين إبراهيم حسين ليبُثَ لواعِجه حاكياً فكرةِ الـ”خِصام”. أسبلت جفوني على أنغام المذياع، وفي صباحِ اليوم التالي وبينما كنت أتقلبُ في العنقريب ومولانا خضر بشير يصدح من المذياع:ساهر طرفييييي ما نومتااا ومن يوم شفتك أعلنتبأني أسييير سلّمتوبمن سواااكا آمنتااا آمنت وآمنتقالت عمتي في زمانٍ ليس بالبعيد اشتهرت فتاتان جميلتان بأداءِ هذه الأغنية، وكُنّ لمّا يختِمن هذا المقطع بقولهنّ “آآمنت وآمنت” يتنهدُ المراهقين من شباب القرية ويقولون “آآمنّااا آمنا وآمنا”.صاحت جدتي “يصبحك بالخير والسعادة” قوم عاين، فتفتحت عيناي على مشهدٍ بديع، ذات الزرازير وطيور الجنة تقف بأمشاطها على حافة الصينية لتلتقط فتات الكسرة المتيبسة، فانشرح صدري وفهمت رسالة الجدّة. عاطف عبد الحي يلقي القفشات ويهيئ صوته بالنحنحة في سهرة مميزة قبل عام وأكثر، كن يممت شطري نحوها لا تعاطفا مع العجائز في استدعاء ذكرياتهم بل شغفا بالأغنيات، أنا أصلي مجروح مرتين إحداهما بالغنا، لن أنسى ما حييت ما فعلتهُ بي “أنا والأشواق”، لقد ذُبْتُ كُلِّياً وانسحبتُ مِن مقعدي تلقائيا حتى ارتطم ظهري بحافة الكرسي، وتخيلتُ محمد مرغني ذلك الشاب وهو مكتمل الأناقة بروح ابن بحري العصية على التكبيل، واقفا أمام مايكرفون إذاعة أمدرمان أخواخر الستينيات، ممتلئاً بالشجن وممسكاً بناصية أنبل ما يجود به الإحساس الإنساني إذ يشدو:ﺃيِّ لحظة بعيدة عنّكﺿﺎﻳﻌﺔ ﻣﻦ ﺃﻳﺎﻡ زمانيﻭﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻛﺎﻥ لي في قربكﺃﺗﻤﻨﻰ ﻟﻮ ﺃﺣﻴﺎهو ﺗﺎنيﺭﻭحي ﻟﻮ ﻏﻨﻴﺘﺎ ﻟﻴﻜﺎمـ بْتصَوِّر ﻣﺎ ﺃُﻋﺎنيﺷﻮقي ﺃﺑﻠﻎ ﻣﻦ ﻏﻨﺎﻳﺎﻭحبي ﺃﺳﻤﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎنيأنا والأشواق ،،وأنا أصلي مجروح مرتين إحداهما بالغنا وغنا الإذاعة على وجه التحديد.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *