كتاب جنقارو


الكاتب: النور أحمد النور

أنا المخلوق واسع المعرفة، بفكرة واحدة في ذهني ينبت لي ريش، تتحول أطرافي لأجنحة، أُحلّق في فضاءات الدغل بين كرنجا وحدود ممالك العراديب، مثل طائر “أبو أندلك” الضخم، ثم أستعيد الشكل البشري، أَخترق حاجز العوالم لمملكة العراديب، أعود لعالم الجن الراحل، أُشاهد حياتين تسيران جنبًا إلى جنب: التلشاويين ومعاركهم الضارية مع أعراب البقارة المهزومين.
أصوات حوافر الأبقار الفارة مثل ملايين الرؤوس من الجاموس، تُطلق الغبار نحو الشمال البعيد، يُعاد كتابة واقع جديد في “كرنجا” والقرى السبع.
أنا الإنسان الذي أراد كل شيء، فتنازل عن بشريته طوعًا، أنا الجني الذي يعرف الأشياء كلها، الزمن عندي مثل مسبحة لالوب، أنا هذا وذاك بكل تناقضاتي.
لقد أحببت “كاكا التلشاوية”، لم أكن أكذب عليها عندما كنا نجلس على رجل “أم خير”، في بوابة الخروج من ثقب الزمن، هناك حين صادفنا الرجل الغريب الموشوم على مؤخرة عنقه فقتلناه. كنتُ لأفعل كل شيء للبقاء معها، لكني اخترت هذا الخيار غير نادم: خيار أن أتبع النور حيث يقود، إلى عالم المعرفة غير المتناهية والخلود، عالم لم أتبينه إلا بعد أن اتبعت “تيريزا”، فتاة الدغل النارية، بعد أن أنار المهندس الأكبر وملك جن العراديب بصيرتي، وأطلق الإمكانيات الهائلة لهذا العقل.
تحركنا من مضارب قيدوم على ظهر الثور، الذي يركض بين العشب، وتيريزا تغني بلحن باهت:

أيها الأرنب الذي هرب من أحضاني
هل تعتقد أن القمر يملك أثداء؟
أراك معلّقًا هناك مثل قراد
اهبط بحق المهندس الأكبر
أيها الأرنب الخارج من قبعتي
إلى أين تمضي وتتركني؟

كانت تدندن وتطوقني بذراعيها، القمر يتوسط السماء فيكتسي الدغل بياضًا، عائدين لحدود المملكة وبيدي زمام الثور وبالأخرى أحمل الورقة الوحيدة المتبقية من كتاب جنقارو، كنت أطويها بحرص داخل كفي.
فبعدما أحرق القائد “كوه” الكتاب، أخبرتني تيريزا أن الأوراق المحروقة لا تعود للكتاب، فحسبما ذُكر في كتاب الأسرار الكبرى، لا يمكن للنار ولا الزمن الإتيان على كتاب جنقارو، فالورقة الوحيدة الناجية من الحريق تعود إليه، وأغلب الظن أن الكتاب في مكان ما.
أنا أميل لتصديق تيريزا؛ فهي العالمة بكل شيء، رغم أن الورقة باستثناء مقاومتها للحريق، فهي فارغة، بيضاء لا تحوي شيئًا، وعندما سألتها، قالت:
_ ورد أن المختار فقط من يرى المكتوب، وحدك من تملك سر قراءتها.
كيف أكون المختار وأنا مثل كل الناس؟ لا أراها إلا ورقة ناصعة البياض. كانت تقول لي:
_ حسبك الوقت، وكل شيء سيتضح.
نحن نعبر الحد الفاصل بين عالمي الإنس والجن، حاملين الحجر المفتاح معنا، ببوابة عرديبة المعدى، مملكة الموتى كما هي منذ الأزل.
طقوس التكفير والتوبة تتواصل داخل حقول الذرة الشامية، وما زالت مستنقعات النحاس المذاب تجري للعوالم السفلية.
في العالم البشري الذي تركناه خلفنا، فقد رحل عرب البقارة عن كل ديار الصعيد، هجرة كاملة لم تترك بيوتًا لأزواج حديثي الفرح، مغطاة بالبروش السعفية الملونة، مخلفين وراءهم ذكرى مجزرة لا تُنسى.
قتلى في مرحال “كريكر”، عظام السواعد تدق الكرينغ في معسكر “كوه”، والكثير من الغضب والانتقام.
أعرفهم، سيعودون حاملين معهم بذور الموت والعنف والدماء، على أسنة الرماح والرصاص. أعراب أجلاف لا يفرقون بين “القائد كوه” وجنود الأنانيا وبقية سكان كارلنجا المغلوبين على أمرهم.
لن تعود الفتيات لرقص الشليجول، لن يكون هناك متسع للفرح بأعياد الحصاد.
ستنام الفتيات العذارى في قعر الجبل في انتظار فتيان لن يعودوا أبدًا.
يدهشني تعلق تيريزا بي، بتّ أنظر للأمر خارج إطار الإرشاد. امرأة جامحة مثل غزال شارد، يتطاير الشرر من طرف شعرها، عندما تُستثار تتحول لكرة من اللهب.
لا أدري لماذا تحتك بجسدي، تحتضنني كلما سنحت الفرصة، وعندما أذكرها أننا إخوة من صلب المهندس الأكبر، كانت تضحك بغنج وتقول:
_ انزع عنك رواسب التجربة البشرية، هنا حيث المعرفة الكاملة والحرية الأكمل، كل شيء مباح بقدر معرفتك.
الحق يُقال، نفسي تنازعني، بين إخلاصي للمعرفة وحبي للخلود.
لا أريد لشيء أن يحول بيني وامتلاك ناصية الحياة، لذلك أُصارع ذاتي وعيناها الساحرتين، شعرها النحاسي الملتهب، جسدها الساخن، فيغرقني في حُمّى الشبق والتوهج…
فقد ألمحتُ إلى الأمر تكرارًا، فمثلاً يوم أن خرجنا نطارد بعض المارقين من طقوس الغفران، قصَّتْ لي كيف أن أبناء آدم الأوائل قد تزوجا أختيهما، وتقاتلا فقتل أحدُهما الآخرَ. اندهشتُ من طريقة سردها للقصة، وبينما سَرَحتُ بعيني لتخيُّل المشهد طَوَّقَتني بذراعيها، شعرت برعشة لذيذة لكني لم أحمل الموقف أكثر مما يحتمل، فضحكتُ معها على البشر وسذاجتهم.

لا أناقض نفسي إن قلتُ إني شخص غير متوقَّع، فمنذ اللحظة التي تركتُ أبقاري وحياتي السابقة وتبعتُ “تيريزا” إلى الدغل، وأنا أفعل الشيء ثم أعود لأفكر فيه. كنتُ مستعدًّا للتضحية بكل شيء من أجل المعرفة، وحب المعرفة، لكني الآن أتساءل: هل الحب وحده مبرر للتضحية؟

لقد تركتُ أمي “عشوشة أم شليخ” لمصيرها المحتوم تحت رحمة جنود الأنانيا، عندما طلبت مني الابتعاد. هنَّأني المهندس الأكبر باجتياز ذلك الامتحان، لكني لست واثقًا من قدرتي على اجتياز اختبار آخر. أتمنى ألا يكون هناك ما يجبرني على ذلك.

خرجتُ مع تيريزا لنجلس على ربوة من أشجار الطلح، صبغت كفيها بالمسحوق الأحمر على ساق الشجرة، كانت تضحك وتحاول أن تلون وجهي به. كنا جالسين في رِجل “أم خير” قرب الصخرة التي ظهر منها الرجل النحاسي الغريب لأول مرة، يحمل مخلاة فلكزته للموت. وعندما عدتُ للجثمان المدفون تحت “عرديبة المعدى” ونبشتُه بعد ذلك بأعوام، لم أجد له أثرًا. وعندما أخبرتُ تيريزا قصته، أشارت للصخرة وقالت:

“هنا يا سولومون توتو تُفتح بوابات الراحلين عبر الزمن. عبر هذا الباب يمكن أن نلتقي بذواتنا السابقة أو اللاحقة، أحفادنا أو أجدادنا عبر القرون”.

صدمتني جملتها الأخيرة، فتذكرتُ نجمة داود السداسية على مؤخرة عنق الرجل، مثلها كانت عند الطفل “كوكو” ابن كاكا التلشاوية. ساورني قلق مفاجئ، كدت أن أخبرها لكني استدركتُ نفسي وقلتُ:

“مَحال أن يكون ما أفكر فيه حقيقة”.

وبينما انزلقت الشمس للغروب خلف تلك الربوة، أتى عواء مرافقين كُرمادي من التلال البعيدة. زحف الظلام علينا بينما أنا أطالع اللهب المنبعث من شعر تيريزا يُضيء الظلام ويضفي على الجو مسحة قداسة. تبتسم فيتسع الضوء، يأتي سرب من الفراش يرقص على مبعدة. سألتُها:

“لماذا لا أستطيع قراءة الورقة طالما أنني المختار؟”

ضحكت بغنجٍ بائن، ثم وضعت يدها على فخذي، كانت ساخنة لحدٍ ما، وقالت:

“أنت المختار يا حبيبي، سنكمل دورة أمنا الشمس فوق أفلاكها الأبدية. سنعيد ربط العلاقة المقدسة لهذه الأرض”.

تساءلت في سري:

“لما تلمح تيريزا يا ترى؟ بما تقصد بقولها ‘يا حبيبي’؟”

أعدتُ سؤالها مرة أخرى، فجاوبتني:

“يا للشفقة سولومون، أسمع أنت المختار، وكتاب الأسرار يقول إن المختار سيقرأ الكتاب عندما تتعامد أشعة الشمس مع خط الاستواء”.

قلتُ:

“ومتى ذلك؟”

أجابت بعطف:

“عما قريب، تحديدًا في 26 من شهر يونيو، منتصف السنة، وفي منتصف النهار، في نفس مكان جلوسنا حيث بوابة الرحيل عبر الزمن. كل ما عليك أن تجعل الأشعة تسقط على الورقة وتنتظر ظهور المكتوب”.

سألتُها:

“لماذا كل هذا الحزن الذي ينتابك؟”

وضعت كفيها على وجهها وقالت:

“لا عليكِ، لا عليكِ”.

حسب قراءات تيريزا، فإن الوقت المحدد تبقى منه أقل من شهر. قررتُ في نفسي أن أسلم الورقة للمهندس الأكبر حتى ذلك الحين، وعندما يأتي الموعد سأقرأها بناءً على أوامره. سنُحيي جيوش الجن المحبوسة في أطراف الأرض، سنبعث الملايين من ركام الحضارات القديمة، سيعود الجن المشتت في المنافي للعيش معًا. كنتُ أفكر في ذلك، فقطعت حبل أفكاري وأضافت:

“أريد أن أخبرك بسرين: أولُهما: كتاب جنقارو كاملاً دُفن مع الجد بكر بريرة في قبر بعيد خلف الأرض الطينية أم سيسي. في ذلك المكان المجهول لم يعثر عليه أحد. هذه الورقة التي بحوزتك الوحيدة والأخيرة من الكتاب.

وثانيهما: وهو سري الذي لم أخبر به أحدًا من قبل سواك، لأني أحببتك أكثر مما تتصور. سأحكي لك ولستُ نادمة. في وقت ما قبل قدومك، وعندما تأخرت أعوامًا وأعوامًا وكنتُ أتشوق لرؤيتك كلما حكى عنك المهندس الأكبر. وذات ليلة استدعاني لفراشه فجئتُ، فطلب مني أن أجلس بجواره. جلستُ دون تردد، تحدث معي وقتها كثيرًا ثم أخبرني أنه مصاب بلعنة العرش. سألتُه عن ذلك، فأخبرني أنه كان يحب والدتك عشوشة، يلتقيان سوياً ويمارسان الحب في الدغل. وعندما استدعاه الملك السابق لاستلام العرش قبل استئناف رحلته للأبدية، كان اختباره أن يقبل بلعنة العرش، وهي حسب ما قرأتُ عنها في كتاب الأسرار: أن الفرد يتحول إلى كتلة من النار عندما يستثار، يحرق كل من يحاول الاقتراب منه. لذلك عندما جلس والدنا على العرش، اضطر إلى الانفصال عن والدتي ووالدتك؛ فالبشريون لا يمكن أن يستحملوا هذه النيران المشتعلة.

في تلك الليلة طلبني المهندس الأكبر للفراش، ولما رفضتُ مضاجعته أطلق عليَّ اللعنة. فمنذ ذلك الحين أسير وحدي دون أن أقترب من أحد. كنت أنتظرك يا سولومون لتحررني منها. كان كتاب جنقارو هو السبيل الوحيد للحرية. أنا الآن أحبك يا سولومون لكني لا أستطيع الاقتراب منك بشهوة دون أن أحرقك. أتريد أن تعرف لما أنا حزينة بعد؟”

ربَّتُ على كتفها وأردفتُ:

“سيكون كل شيء على ما يُرام. هذا يعني أن المهندس الأكبر لن يفرط في الورقة أبدًا”.

لوهلة كنتُ متعجبًا، لكني تجاوزتُ ذلك وقلتُ لها:

“إذًا سنحتفظ بسرها لحين قراءتها أولاً”.

أشارت بالموافقة.

أخبرتُها أن الأمر خطير.

فضحكت ولكزتني:

“منذ متى يخاف الفحل المغامِرَة؟”

ومن تلك الليلة تزداد الورقة ثِقلاً،

تتجاذبني بسرٍّ غامض لا أعرفه، أعرضها للضوء يوميًّا كلما انتصف النهار. صرتُ أتجنب المهندس وأجلس معه أقل. سألني مرة عن الكتاب، فأخبرته أن القائد كوه أحرق الورق. فاجأني وقال:

“أعرف ذلك، الورق خداع وزيف كبير”.

انقبضت نفسي، كيف يعرف ذلك؟ قلتُ له إني أشاطره الرأي، فابتسم وودعني.

كاكا “التلشاوية” التي يحسبونها مجنونة، هي الأذكى والأصح من الجميع، متعالية فوق أمراض الكائنات البشرية الأنانية. عندما أفكر فيها يقفز قلبي من فكرة لعنة العرش التي قالتها تيريزا. لا أفكر في شيء يبعدني عنها، تخرج من القرية فأحملها على أطراف الجو، أخرج بها بين مسامات الشجر، نتعانق حتى الصباح عندما يتنفس، نتحادث النهار كله. لأني غير مرئي، يعتقدون بجنونها وهي توهمهم بذلك لترتاح من أعينهم الطفولية. تبتسم في وجهي فيزهر، تضاجعنا مرات ومرات في طبقات الجو العليا كما تضاجع السحابة أختها، وتحت تيار الماء، على أغصان الشجر مثل طيور السمبر. سأعترف أنها الصلة الأكبر بيني والعالم.

عندما تهتز من النشوة وتنتفض، تصرخ كعصفورة صغيرة، تسقط أرضًا يركضون منها. اعتليها بكامل الشهوة، يحسبونها مجنونة لكنهم واهمون.

تسعى إليَّ حافيةً بقدميها المدماة بأشواك الهجلجليج والسنط، تلاقيني فتعود قدميها مبرأة من كل عيب. كاكا التلشاوية رمز الأنوثة وليست مجرد امرأة.

الأسبوع الماضي قبل تعامد الشمس مع خط الاستواء، حدث ما لم يتوقعه أحد سواي. هاجمت جيوش الحكومة المركزية، تتقدمها مليشيات العرب البقارة على ظهور الأحصنة التي يكسو حوافرها الغبار، معسكر القائد كوه المحمي بالألغام الإسرائيلية وقوى الجدة. لقد عادوا للثأر، فعرب البقارة لا ينسون قتلاهم.

حاولتُ أن ألتزم قواعد المهندس، الذي بتُّ أكِنُّ له ضغينة. نراقب أنا وتيريزا الحرب، كانوا قد هاجموا “قرية التمة” خارج الجبل في الفجر المبكر. وعندما أطلت الشمس برأسها من محرابها السماوي، تفاجأت من مشهد مئات الجثث المتفحمة المُجنَّدة. النار التي تشب في سويبات اللوبيا والفول والسمسم، تصدر طقطقة انتفاخ الجثث والمحاصيل المحترقة. دبَّ فزع عظيم في النفوس.

في الضحى، انتقلت دائرة الحرب إلى معسكر القائد الشاب. بالرغم من تفوق قوات الحكومة المركزية وخيالة البقارة، فقد استمات جنود الأنانيا في الدفاع عن معسكرهم الحصين. فقد حقنوا بسم الحية شرايين الجيش الحكومي المنهك. بالرغم من تفاجؤ القائد كوه بالهجوم في بدايات الخريف، فقد استطاع إجبار القوة المهاجمة على التراجع. لكن لسوء حظه، فقد وصلت إمدادات خيول البقارة من كل حدب وصوب، ببراعتهم في أسلوب حرب العصابات الخاطفة، لترجح الكفة لصالح الجيش المركزي.

قبل أن ينتصف النهار، انسحب الجيش المهزوم نحو قمة جبل تلشي العظيم، داخل الكهوف المظلمة الحصينة تلاحقهم خيول العرب البقارة، مثلما احتمى الأجداد من القائد الإنجليزي “كوريا” في حملاته التأديبية. قبل عشرات السنين، ها هي الدولة المركزية تطلق مخالبها تجاههم وهم يلوذون بأحضان الأم الطبيعة للحماية.

تحولت ساحة المعسكر إلى ميدان إعدام جماعي، يُقاد الجنود ليتراصوا في صف طويل، ليكونوا أهدافًا للرماية.

أعرابي قصير، مجعد الشعر، يتردي كاكي وسروال قماشي متسخ، تتراص التمائم حول ذراعه. يمتطي فرسه ويجر جسدًا موصولاً بحبل من اللحاء على الأرض. يقفز من سرجه ويرفع الجسد الذي يتضح أنه لفتى، يقيد يديه ويقف أمام شجرة الحميض الكبيرة مقيد اليدين. كانوا يشعلون نارًا كبيرة ويرقصون المردوم على ضوئها، بينما الذئاب الجائعة تعوي حول المكان، وأسراب الصقور والغربان تنعق. يصدرون أصوات الفرح بجثث طازجة لم تجف منها الدماء. أخرج الرجل سونكي الكلاشينكوف، وبدأ يزبد في الحديث:

“ماذا يفعل ولد العرب مع العبيد؟”

أدهشني رد الفتى، فقد قال للرجل بلهجة آمرة:

“كلمة عبيد لا معنى لها، أنا ابن كاكا، وأبي قادر على هزيمتكم جميعًا”.

تلوَّن وجه الرجل، وتحفز للنيل منه، لكن قائده أوقفه. احترتُ من كلامه: ترى هل يقصدني بكلامه؟

وعندما سألوه عن القائد كوه، أخبرهم بعد أن سكت لبرهة:

“أتريد أن تعرف ماذا فعل المناضل والقائد كوه، المبارك من الجدة تاتا لتحرير عموم الجبال؟ سأخبرك فاستمع”.

فأخبرهم كيف أن عجوزًا بملابس بيضاء فضفاضة وسبع زهرات من النرجس على شعرها، هبطت من الغيوم من جهة جبل تلشي، حملت القائد الشاب الجريح بعد أن أصابته رصاصة. بعد أن قبلت وجهه الدامي، استحالت إلى فتاة شابة أجمل ما تكون، أخذته بين ساعديها كالطفل وطارَت به للبعيد. كان يحدثهم وهو ينظر للبعيد، لم يصدقوه ولم يكذبوه، فقد كانت القصة أكبر من مخيلتهم. وقفوا مأخوذين بسحر الحديث، أقسم لهم بالإله موسلي فانتفض الرجل العجوز من بين الصفوف، وكبَّر الله ثلاثًا، وفاجأ قائده والجميع، أطلق رصاصة استقرت بين عيني الفتى، لتتناثر أشلاء دماغه حول جذع الشجرة. كبَّر باقي رفاقه ولم يعطوا لقائدهم فرصة الحديث عن الأمر.

وجدتُ نفسي أصرخ:

“لقد قتلوه، لقد قتلوه!”

وضعت تيريزا يدها على فمي وذكَّرتني بأننا في مهمة.

إنه وقت الأخبار العصيبة، رغم أن حدثًا مماثلاً قد حدث لأمي، لكن كان ذلك بإرادتها في التضحية لطريق الترقي. لكن ما ذنب الطفل كوكو فيما يحدث؟ هو ابني من حبيبتي كاكا. ترى كيف ستواجه خبر موته؟ أردتُ أن أتدخل، لكن تيريزا منعتني، ذكرتني بشرط المهندس الأكبر بخصوص عدم التدخل في صراعات الآدميين. لكنه ابني! قلت لها.

الآن مشاعر جديدة تجتاحني، تيريزا تقول إنها رواسب آدميتي القديمة. أجاهد في تجاهلها فتكبر. لعلي المتسبب في موته، كان بوسعي أن أمنع ذلك. أستطيع أن أعترض الرصاصة، أن أحولها لرشة ماء، أن أبيد جيش الحكومة كله. المشكلة أن طفلي كان واثقًا من قدرتي هذه فخذلته.

أمضيت الليل كله أفكر: هل يستحق الخلود كل هذا؟ هل المعرفة تتطلب مني لعنة العرش؟ أهناك أشياء أخرى تستحق التضحية؟

أشرقت شمس اليوم الموعود، دعك الأعرابي الذي قتل الطفل بالأمس عينيه من النوم، تبعه الآلاف من جند الحكومة الذين ناموا في زريبة شوكية ضخمة لتقيهم شر الذئاب. صهلت الخيول التي ترتع في سفح الوادي لما رأتني، لكنهم كانوا متعبين من مطاردة النساء ومضاجعتهن طوال الليل، ولعب المردوم.

وفيما آخر الناجين من الذبح يدخل الكراكير زحفًا على كفيه المدماة، كانت قطعان المرافعين وأسراب النسور الكاسرة تبقر البطون المنتفخة وتجر الأحشاء خلفها مثل سلاسل من الحبال المفتولة بإحكام.

جلست وحدي أضع قدمًا فوق أخرى، تحت “عرديبة المعدى” بالقرب من الصخرة حيث تُفتح بوابة المسافرين عبر الزمن، أنتظر تعامد الشمس مع خط الاستواء، فاردًا الورقة أمامي، لأغير مجرى التاريخ، فيما أرى الجميع ولا يراني أحد.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *