قيامةُ الصحراءَ

·

·

للكاتب: معاذ أبوالقاسم

(1)

من رحِم الصحاري الضامر -التـي لا تعرف غيـر الغدر والتنكيل بكلِ من يطأها- وفي مواسـم التمزُّق والشتات الذي طال كل شيء بزق فجر آلاف الضِباع، ضِباع مِسخـة نشأت سالكة خُطى وآلدتها؛ تغتصب وتقتل كل من يُصادفها. الصحراء التي كانتْ تأخـذ وضعية الدفاع.. هاهي تهجم لأول مرة في تاريخها على المدينة وتنشُر ضِباعها في شوارعها لاحتلالها، المدينة التي -وقبل كل شيء- اغتصبها أبناءها العاصيين، أبناءها الذين ما أن خرجـوا من رحِمها حتـى كشَّروا أنيابهم لها، وأغولوها في بطنها المُنتفخ مُنتهكين حُرمة دمها. ولأن دم بُكارتها أصبح مُندلقاً في الشوارع، وجسدها المُغتَصَب مطروحاً في سوق النخاسة لكلِ أفاكٍ أثيم؛ فإن الصحراء قد أغراها العرض وسال لُعابها للظفر بالغنيمة، فأطلقتْ العنان لِضِباعها. وفي إحـدى الصباحات التـي ستُخلِّدها ذاكرة المدينة للأبد، وبينما كان الجميع غافِلاً.. أتى يوم الحساب بغتة، قيامة أطلقتهـا الصحراء كي تزرج بالجميع في جحيمهـا ومن ثَـمَّ يخلو لها جسد المدينة المُنهك من أفاعيل أبناءه للإنقضاض عليه والتهامه. في ذلك الصباح عوتْ الضِباع عواءً طويلاً، عواء لم يفهمه البشر كان بقول: “ها قد أتى يوم الحساب. لقد كُنا سابقاً نتوارى خلف الظِلال ونأكل بعضنا بعضاً، لكن ليس بعد الآن”. ثُـمَّ حملتْ بنادقها وصوبتها نحو رؤوس كل من تلتقيهم، بنادق تقذف من جوفها وروداً حمراء تُبشر بالفناء.

(2)

في الطريق المـؤدي للمستشفى كانتْ “ماريا” -المرأة المُسنة- تتوكأ على عصاها وتخطو ببطء لشراء كميات كبيرة من العلاج الذي يحمل نجاتها، لأن انقطاعه يوماً واحـداً كفيل بإنهاء ما تبقى من حياة تجري في أوصالها، ماريا التي لم تعرف يوماً بأن ساقيها قادران على الهرولة والرجوع لأيام الصِبى مرة أُخرى؛ حدث ذلك عندما ظهرتْ الضِباع أمامها فجأة -وكأنها أتت من العدم- ودوى الفضاء بأصوات القذائف المُتطايرة بعشوائية، الضِباع المُتعطِّشة لشُرب الدماء وقفتْ سداً منيعاً حال بينها وبين الوصول للمستشفى، وفي مُحاولة منها للإمساك بزمام الحياة.. قذفتْ عصاها في وجوههم وهرولتْ بعيداً عنهم تنشد النجاة بينما تهمهم شِفاهها: “ااه يا للملاعين، من أي بوابات الجحيم أتيتم؟!”. المدينة التي كان يسكنها الهدوء حتـى ليلة البارِحـة قد حلَّ عليها العذاب فجأة دون مقدمات أو أي إنذارات.. هكذا كلغم، كاصطدام سيارتين في شوارعها المزدحمة. ففي ذلك الصباح المشؤوم أمطرت سماءها مطر السوء الذي فتك بأُناسها، وكأن لعنة ما حلت عليهم، لعنة كانتْ سُحبها تغطي أُفق المدينة وتتوعدهم دون أن يُعيرها أحدهم انتباهاً.. هاهي في غفلة منهم ترجمهم، وتهشم منازلهم بالقذائف العشوائية التي تنطلق من فوهات مدافعهـا. إنها العاصفة تجتاحهم، الطامة الكُبري، إنه الفناء الأبـدي..

(3)

مثل غُصن تعصف به الرياح كانتْ ماريا تتمايل وتهرول في خطوط مُتعرِّجـة كي تتفادى الشظايا التي تُرسلها السماء، سماء المدينة التـي أعلنتْ العصيان والتمرُّد متضامنة مع الصحراء، فبعد أن كانتْ زرقاء ترسل الطمأنية لقلب كل من ينظر إليها باتت سوداء قاتمة تقذف الرُعب في الأفئدة، ملوثة بالدُخـان؛ دُخان المنازل والجثث المُحترقة المُمزَّقة المُنتشرة في العراء. في هذا الزمن الوحشي بات كل شيء يستطيع العصيان والخيانة، وكأنها تجري في الشرايين منذ الأزل، الأزل الذي بات يتوعـد المدينة بالإنقضاض عليها وطيهـا في صُحف النسيان. النسيان الذي يبدو شراً في نظر ماريا، لكن.. إذا ما كان هذا قدرهـا الذي خطته سماء المدينة.. فأين المفر ؟. أين الملجـأ ومطر السوء يعصف بالمنازل الصغيرة والعمارات الشاهِقة، العمارات التـي باتت تسقط واحـدة بعد الأُخرى جراء هذا الوابل من القذائف، العمارات العاصية التـي رفضتْ التطور واللحاق بركب الحضارة.. هاهي تركع وتصلي مُرغمة صلاتها الأخيـرة. النسيان الذي يبدو شراً في نظر ماريا ها هو يُلاحقهـا ويتوعـدها، لكنهـا لم تكن لتستلم له بعد أن تعاظمتْ لديها غريزة النجـاة، فها هي تدخـل إحدى المبانـي رِفقة آخرين فاريين من هذه اللعنة التـي ألمَّت بهم دون أن تخطرهم بأخـذ الحيطة والحذر. تجلس ماريا وهي تلهث، بينما العرق ينزل على جبينهـا وخدودهـا المليئين بالتجاعيـد، وتتذوق طعمه المالح شِفاههـا المُتيبسة. تنظر للناس الذي يجلسون قُربها، وترى عيونهم الوجلة، الباكية، الحزينة. تجاهـد هي لتلتقط أنفاسها، تسعل سُعالاً حـاداً.. سُعال شبيه بقعقعة السلاح الذي يدوي في الخارج كي يحصد أرواح سُكان المدينة الذين استخفوا بالإشارات وغفلوت عنهـا، سُكانها الكادحين الكئيببن، كآبة جلبوها هم لأنفسهم حين أعطوا الجلاد الأصفاد كي يضعهـا على رقبتهم ويقودهم. “يا للغباء.. يا للغباء، يا للرعونـة”؛ تقول السحابـة التـي تغظي سماء المدينة: “كيف تتجاهلون وجـودي فوقهم، لماذا لم تعيرونـي انتباهكم، أو على الأقل تشكرونـي لأنني أحميكم من لهيب الشمس الحارق. ألم أفعل؟. يا لكم من ناكرين للجميـل. كل من استخف بي أوردته المهالك وها أنتم تنالون ما تستحقـون”.

(4)

من كلِ فجٍ عميق أقبلتْ الضِباع العطشى للدم وللحم البشري الشهـي، ضِباع أحاطتْ المدينة النائمة في غفلتها الأبدية، ومن يحرسونهـا أوهموا سُكانها بأعينهم الصاحية التي لا تنام أبداً، أعينهم النائمة أبداً، حُراسهـا الذين أوهموا أنفسهم ومن حولهم بالشجاعـة والوقوف في وجه كل من أراد بهم سوءاً، ولمَّا جـاء اليوم الموعـود كانوا أول الهاربين تاركين المدينة وأُناسها يواجهون مصابهم وحدهم. في ساعة الصِفر، هجمتْ الضِباع على أُناس المدينة الغافلين، الغائبين في براثين النُعاس، نعاس ليلة الأمس -بكلِ ضجيجها وهدوءهـا- التـي قد لا تتكرر أبداً في حيـاة البعض الذين سُرعان ما طواهم النسيان وهرب بهم بعيداً نحو تخوم مُدن أُخرى وعوالم ثانية. إنها الغفلة ذاتها التـي جعلتْ ماريا تخرج من بيتهـا صباحـاً نحو المستشفى بحثاً عن العلاج، وبدل أن تظفر بمبتقاها ها هي تقرفص رجليها وتضمهم عليها بينما يستولي عليها الذُعر والخوف، وبدل أن ترجع لبيتهـا إنها الآن تتشارك مع آخرين لا تعرفهم غُرفة لأول مرة ترى أساسها، بينما تنتظر هدوء الشوارع التـي قد لا تهدأ أبداً..

كوستي 10 مايو 2023

اللوحة بواسطة : محمد حسن من صفحة Cupa art


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *