للكاتب : فكي علي
-هل تُلحِن أعمالك بمصاحبة العود فقط أم بمصاحبة آلة أخرى كالبيانو مثلاً؟ لأن في معظم ألحانك تراكيب ميلودية وهارمونية مبهرة، وحتى الكاونتربوينت ياتي طائعاً ومختاراً إليك، وكأنك تستخدم عشرات الآلات في آن، وهذا شيء مدهش! كيف تفعل ذلك؟.
-كما سبق وأن ذكرت، أنا لم أدْرُس الموسيقى أكاديمياً، ولكنني تثَقّفتُ موسيقياً، وبالتالي كان لذلك أثراً في عملية التلحين. أنا أعزف على آلة العود، واللّحن عندما يأتي، فإنه يأتي لوحده وأقوم بتنفيذه على آلة العود، ومن خلال الثقافة الموسيقية، أستطيع معرفة التركيبات اللحنية واختيار السُلُّم الموسيقي والمركّبات والكاونتربوينت، وكل ذلك يتم من خلال آلة العود، والعود ربما لا يعطيك كل إمكانيات الآلات الأخرى، لكن المهم في الأمر هو معرفتك بطبيعة الآلات وإمكانياتها، وعلم الآلات الموسيقية وتوظيفها وهذا موضوع آخر.
مقتطف من حوار أجراه الأستاذ الفاتح مرغني مع الموسيقار محمد الأمين.
___________
لم تستعد عبارةُ تواضُع العظماء التي أفسدها التناول الفج وكثرة ‹اللُّواكة› رونقها ومعناها الحقيقي إلا من خلال إجابة الباش كاتب أعلاه، وذلك لأنّي ومن خلال تتبُّعي لمسيرته الفنية منذُ أواخر خمسينيات القرن الماضي أعلم جيّداً أنّه قد حاز على طائفةٍ من العلوم الموسيقية لم تكن متيسرةً لمجايليه في السودان، وذلك نسبةً لعدم وجود أي جهة رسمية تُدرّس الموسيقى في ذلك الزمان، إذ أنّ المعهد العالي للموسيقى و المسرح سابقاً كلية الموسيقى و الدراما حالياً لم يتم افتتاحه إلا في مطلع السبعينيات، ولكن ولأنّ الأستاذ محمد الأمين ما انفك يؤكدُ أنّه لم يشأ أن يطرق هذا الدرب اعتماداً على الموهبة فقط كسائر الفنانين والموسيقيين في ذلك الزمن حتى يَصْقلها بالمعرفة، فما كان منه إلا وأن لجأ لفرقة موسيقى بوليس النيل الأزرق، وهي الجهة الوحيدة آن ذاك، فملّكته الأدوات الأساسية وطوّرها بالمطالعة والممارسة الذاتية لاحقاً، وقد حكى كثيراً عن أثر هذه التجربة في مشواره الفني ولا سِيَما في الأناشيد الوطنية بصفة عامة والأكتوبريات بصفة خاصة، وتتجلى هذه النقطة في ‹أكتوبر ٢١› و ‹قصة ثورة›، فقد استفاد من الخيال الموسيقي الذي شكلته المارشات العسكرية و وظفه بحرفية عالية في هذين العملين بالتحديد وفي سائر أناشيده بشكلٍ عام.
طالعتُ مقالاً لأحد الصحفيين ذات مرة، حكى فيه عن طبيعة المنافسة الجميلة بين الفنانين والتي أسفرت عن جواهر رسخت في وجدان الشعب السوداني لعقود وما تزال، ولكنه أكد على أنّ المنافسة بين محمد وردي ومحمد الأمين كانت أبرز المنافسات وأكثرها سِحراً ورفداً للساحة بأنصعِ الدراري وأكثرها بريقا، وذلك لأنّهما قد أخرجا الأغنية السودانية من فخ الدائرية الرتيب، ومن ثَمّ أعادا صياغتها من جديد، إذ أنّ رهانهما على التجديد الموسيقي أكبر من غيرهما، وقد تميزا بموهبة وجرأة حقيقية صعدت بهما إلى القمة بدون منازع. وقد استطرد في معرض حديثهِ حاكياً عن بداية ظهور الغناء الهابط ‹هكذا سماه› في نهاية العقد السابع وبداية الثامن، وكيف أنّه دفع بالأستاذ محمد الأمين لإعلان اعتزاله ضِمناً، إذ توقف عن الغناء لفترة قاربت العام كنوع من الإحتحاج على تلك الغثاءات التي أخذت تلوث الذائقة السماعية للشعب، مما دفع بمنافسه الرئيس وصديقه الحميم محمد وردي أنْ يحاوِلَ إثناءهُ عن هذهِ الخطوة، مُعلِّلاً ذلك بقانون الإنتخاب الطبيعي وأنّ البقاء سيكون للأصلح دائما. على حد علمي لم يُبدي الباش كاتِب تجاوباً حقيقياً، ولكني أجزم بأنّ وردي كان يعلم أنّ قريحةَ منافسه من وراء هذا الصمت تنطوي على سِرٍّ عظيم، فأرواحُ العارفين تتخاطر. لم يمضي وقتٌ طويل حتى تم الإفصاح عن حفل سيحييه محمد الأمين في لندن على خشبةِ مسرحِ لوقال هول، وقد كان ذلك في العام ‹١٩٨١›، ذلك الحفل المشهور الذي زلزل الساحة الفنية بما قُدِّمَ فيهِ مِن أعمال باذخة وباحترافية موسيقية عالية، البروفة الأولى له كانت في ود مدني في العام ‹١٩٧٩›، و الثانية و الأخيرة في المسرح القومي أمدرمان ‹١٩٨١›، ولا يزال يشغل أذهان النّاسِ وأفئدتهم حتى الآن، وعلى رأس رمحِ الأعمال التي قُدِّمت ذلك العمل الإستثنائي الذي ادّخرهُ موسيقارنا لـ‹ساعة حوبة›، فقد استلمَ نصهُ أواخر عقد الستينيات وتمّ تلحينه في ذات الوقت بوضع الميلودي الرئيسي للحن من خلال آلة العود، ولا تزال بعض التسجيلات الصوتية موجودة تؤرخ لتلك الحقبة، إلا أنّهُ لم يبرزه للجماهير إلا في مطلع الثمانينيات في ذلك الحفل، وقد عزا ذلك إلى أنّهُ قد وضع تصوراً للتوزيع الموسيقي لن يجد من يِنفِذه كما يريد، إذ أنّ العازفين قد كانوا هواة، ولا يعلمون حتى أبجديات الموسيقى ‹النوتة› على وجه التحديد، بالإضافة لعدم دخول بعض الآلات الموسيقية الحديثة إلى السودان بعد، فاحتفظ بالعمل حتى تم افتتاح المعهد، وانتظر حتى تخرجت تلك الدفعة المشهورة، والتي كان على رأسها كُلّاً من الفاتح حسين، سعد الدين الطيب، مرغني الزين، عثمان النو، وفايز مليجي .. وغيرهم، فاستوعبهم في فرقته لتميزهم الأكاديمي ولموهبتهم العالية، فقد توقف على ذلك حتى قبل تخرجهم، ودخلت الأغنية مع هؤلاء ورشة موسيقية طويلة، حتى خرجت بشكلها النهائي في الحفل المُزْمَع، فما إن كشف عنها الحُجُبَ حتى جَبّ بها ما قبلها وأعجز ما سيأتي بعدها مِن أعمال امتلأت بها أرفف المكتبة الصوتية السودانية عن بلوغ شأوها فغرد بها خارج السرب إلى أجلٍ غير معلوم، كيف لا وهي الأغنية الأكثر اكتمالاً من جميعِ رصيفاتها على جميع الأصعدة، فقد جسد فيها الباش كاتب كل معارفه وأحاسيسه وتجلت فيها عبقريته بصورة جعلت منها إلياذةً لكل من يهوى الفن والموسيقى بتجرد، ولا تزالُ تُفْصِحُ عن قداستها في كُلِّ يوم، وكل يومٍ هيَ في شأن.
______________
هكذا يُفَصِّل خيال الباش كاتب الألحان، يُحيكها بملكاتٍ متفتقةٍ انْبَشَّ ماؤها وتفتحت أزاهير رياضها بحذر وبدقة متناهية، ومِن ثمّ يُبعثر الأنغام بين الآلات لتتقاسمها أفئدة العازفين على أوجاعنا بميوزك ڤيرنيا تؤولُ نسبةُ الخطأ فيها إلى الصفر، ليحاكي إحساس الشاعِرِ الناثِر:
شفت كيف حبّك حياتنا
وكيف بدون حبك نكون
فيُعَبِّرُ عن هذهِ التقريرات بجملة موسيقية مُترفة، وأخيلة مُركبة ومحتشدة باللا معقول، ليُجلي لمعشوقهِ الآيِبِ بعد غياب لم يُرجى طَيُّه تلك الأحوال التي لا تسعها قوالب العبارة، ولا تدركها لطائف الإشارة، ثم يأتي ليقول في سكون وكأنهُ يشير لتداعي الأوزان والألحان في الجملة الآنفة:
شفت كيف حبك بيعمل؟!
يشغل الوجدان يعزب ‹يصلها بآهةٍ ساخنة›
وبرضو بتقول عني خادعك
وإني بتلاعب وبكزب ‹وهنا الآهةُ دافعها الحُرقة والضيْم›
فيسترسلُ لا ساخراً وإنْ بدا ذلك للوهلةِ الأولى، وإنّما شاكياً باكياً مُناشداً حبيبه ..
ليكَ حق دنياكَ خالية
لا بتشيل هم لا بتتعب
كنتَ تتعلم تجامل
لو فؤادك مرة جرب
إنو ما يدق دقة واحدة
مُعلِناً بطرقِ الأصابِعِ على أوتار النائحات الذاكِرات القانتات تفجيرَ شلالاتٍ مِن الحنين، ونهاية أجمل وأنبل فصل مِن فصولِ عتابِ الأحبّة، فيفتح معها قلوبنا جميعاً:
ديار محبة ديار حياة للعائدين
مَـ بنقاوم وكيف حنقدر!!
وين حنهرب منو وين ..
_________
أعجبني كثيراً تشبيه أحدهم للمنافسة المحمومة بين الفنانين بـ‹قيم الشطرنج الطويل› حتى أتى محمد الأمين بزاد الشجون فكانت بمثابة الكِش ملك وصارت حصانه الرابح الذي سبق به ‹الكبار والقدرو والبعدو› وافتتح بها عهداً جديداً كان هو رائده بلا منازع ..
فأوصيكم ونفسي دوماً يا رِفاق بأن اسمعوا و عوا، وتزودوا، فإنّ خيرَ الزّاد-
‹زاد الشجــــون›
ما بنقاوم وكيف حنقدر
وين حنهرب منو وين ..
اترك تعليقاً