إعداد/ بول مثيانق
تتنفس قبيلة الدينكا أسطورةً تأسيسيةً تُشكِّل عصب هويتها الكونية والاجتماعية. إنها حكاية قرنق وأبوك، اللذان لا يمثلان مجرد أسلاف أولين في المخيال الجمعي، بل هما النواة الرمزية التي تبلور رؤية الدينكا للخلق، والوجود، والعلاقة المتوترة بين البشر والإله.
حيث تحتل مكانة مركزية في الميثولوجيا الدينكاوية
في البدء، وفق التراتيل الشفاهية المتناقلة عبر الأجيال، خرجت الحياة من رحم الإله الأعلى “نياليك” (أو نيال). في النسق الأسطوري الأكثر رسوخًا، تم تشكيل الكيان البشري الأول من عنصر الأرض الأساسي؛ فجُبِل قرنق، تجسيد الذكورة والقيادة والحكمة النافذة، وأبوك، من ذات الطين الذي تسير عليه أقدام أحفادهم، ويُرمز لها بالأفعى الصغيرة، خاصة الثعابين الرمادية.
لكن النسيج الأسطوري لا يخلو من تعددية دلالية، إذ تروي بعض اللفتات أن نياليك نفخ فيهما الروح من أنفه، أو أودعهما مجرى النهر ليكتملا ناضجين، كاشفًا عن ارتباط وثيق بين نشأة البشر والماء، شريان الحياة في جغرافيا الدينكا.
تتواتر الروايات حول لحظة التحول الجذرية في العلاقة الإلهية-البشرية، وهي لحظة درامية تُفسِّر أصل المعاناة الوجودية.
يُحكي ان كانت السماء آنذاك قريبة، تتكئ على الأرض، مما أتاح تواصلاً مباشراً وشفافاً مع نياليك.
غير أن فعلتين بشريتين، تختلف تفاصيلهما بين المجموعات الفرعية للدينكا:
- في رواية مأساوية، بينما كانت أبوك، حارسة الزراعة، تثري الأرض بمجرفتها الطويلة، ارتطمت الآلة بغير قصد بجسد الإله. غضب نياليك غضباً كونياً، فقطع الحبل الذي يربط عالمه بعالم البشر، مبتعداً إلى علوٍّ سحيق.
- بينما تحكي رواية أخلاقية أن أبوك، مدفوعةً بالجشع أو الرغبة في الوفرة، عصت أمر نياليك بزراعة بذرة واحدة فقط يومياً، فزرعت أكثر. كان العقاب واحداً: الانفصال الأبدي.
كانت عواقب هذا الفصل مهولة: حلول الموت الدائم، وانتشار المرض، وتحول لقمة العيش من هبة إلهية إلى كدٍّ يومي مرهق.
ونسبة لطبيعة الموروثات الشفهية في ثقافة الدينكا، الذي يحمل الحكمة عبر الزمن، لا تقدم لنا الإسطورة رواية أحادية مغلقة، فبينما يرى بعض الفروع في قرنق الجد الأسطوري الأسمى، تقدم أخرى أسطورة *دينق ديت، الابن المعجزة لابنة الغمام (ألوت)، كأصل بديل للقبيلة، مع الحفاظ على موقع *أبوك الثابت كرمز مركزي للأنوثة والإخصاب، أسطورة أخرى، أكثر قسوة في دلالتها، تروي أن نياليك منح البشر فرصة للعودة من عالم الموتى، لكن قرنق، ممثلاً الحكمة العملية (أو ربما الأنانية البشرية)، عارض خشية استنزاف الموارد، فحُسم الموت نهائياً لصالح رأيه.
إلا ان الأسطورة حجر زاوية في البناء الأسطوري الذي يرسخ الانتماء القبلي ويوحد شتات المجموعات الفرعية تحت سقف أصل مشترك، تعزيزاً للهوية والذاكرة الجمعية للدينكا.
و لا يزال اسم “أبوك” يُطلق على بنات الدينكا ليس كمجرد تقليد، بل كتميمة للبركة والصحة، وتأكيد مستمر على الدور المحوري للمرأة والخصوبة في استدامة الحياة والمجتمع.
و فيما يلي قائمة بالمصادر والمراجع التي تتناول أسطورة قرنق وأبوك في ثقافة قبيلة الدينكا:
- “Sudan’s Blood Memory: The Legacy of War, Ethnicity, and Slavery in South Sudan”
لـ Stephanie Beswick (2004)
يتناول الكتاب التاريخ الثقافي لقبائل جنوب السودان، بما في ذلك أساطير الدينكا عن الخلق ودور أبوك وقرنق في تكوين الهوية القبلية . - “Encyclopedia of Goddesses and Heroines” لـ Patricia Monaghan (2014)
يُعرِّف بالأساطير العالمية، مع فصل خاص عن أبوك كإلهة الزراعة والخصوبة عند الدينكا، وارتباطها برمز الأفعى . - “African Mythology A to Z” لـ Patricia Ann Lynch (2004)
يشرح الأساطير الأفريقية، ويخصص قسمًا لأسطورة قرنق وأبوك، مع تحليل لرمزية قطع الحبل السماوي وعواقبه على البشرية . - “Creation Myths of the World: An Encyclopedia”
لـ David Leeming (2009) يُعرِّف بأساطير الخلق عالميًا، ويذكر تفاصيل روايات الدينكا عن خلق البشر من طين السودان بواسطة الإله نياليك .
اترك تعليقاً