للكاتب : مأمون الجاك
“إحدى ذوات فرناندو بيسوا العديدة، تكتب في يومياته أن خيالات الأدب لا تشكل ذاكرة أو تتحول إلى نوستالجيا بالنسبة له “إنها بالرغم من كل شيء أحلام نصحو منها”، ذات أخرى تمتلك مفهوما مختلفا للقراءة تخبرنا بأن وهم الفن لا يزول “لا حاجة للاستيقاظ منه، لأننا لا ننام فيه، بالرغم من حلمنا فيه”. بينما يقوم بورخيس بأخذ مقولة لأندريه جيد عن دوستويوفسكي: “لا أستطيع أن أعود مثلما كنت قبل قراءته، فكيف لي أن أصف قوته؟” ويحولها إلى استعارة: “مثل اكتشاف الحب، أو رؤية البحر للمرة الأولى؛ اكتشاف دوستويوفسكي يترك علامة لا تمحى في حياة الإنسان\ القارئ”.تتحدث هذه المقولات التي تنطلق من وجهات نظر وأزمنة مختلفة، عن ذات الأمور: علاقة القارئ بالنص، والمطمح الأعظم لكل نص أدبي: التأثير على القارئ والاستحواذ عليه -نحن نعرف بأن أشهر شخصية خيالية: دون كيخوته؛ هو قارئ ، محت روايات الفروسية الخيط الرقيق الذي يفصل بين الواقع والحُلم في ذهنه- بمرور الزمن، تنمحي لحظة الاكتشاف\ الرؤية، ويبقى الحب الأول والبحر في الذاكرة. فهل بإمكان حدث هارب، واستيهامي مثل القراءة -لا يمكن الإمساك به، استنساخه، أو اختزاله؛ لأنه يحدث في عدة أزمنة (القارئ، النص وشخوص النص) ولأن الجسد بحواسه كلها، والذاكرة والمخيلة تكون نشطة ومتحفزة داخله -هل يمكن له بخيالاته وتجاربه الشعورية أن يتحول إلى جزء من ذاكرة القارئ، لا ينفصل عن بقية أحداث حياته؟ أم أنه يظل متعاليا، في الخارج، واستعادته لا تكون إلا مجرد قراءة في سياق مغاير؟ في السطور القادمة، سأحاول تتبع تلك العلاقة المربكة والملتبسة، داخل الأدب نفسه، عبر نصوص احتوت بداخلها على قُراء: في (موسم الهجرة إلى الشمال) تخيب معظم تخمينات\ قراءات الراوي لشخصية مصطفى سعيد، ففي الفصل الأول ظنه فاقدا للذاكرة واستبعد إمكانية أن يكون قاتلا، لكن ما أن يبدأ مصطفى سعيد في الحكي حتى نكتشف قوة ذاكرته وأنه قد ارتكب جريمة قتل.في البدء يكون حكيه باردا، بسيطا في مساره الزمني الخطي الواحد -فترة طفولته- وفي لغته – حتى أنه يمكن للقارئ أن يستمع للكلمات الدارجة\ العامية التي استخدمها سعيد في الحكي، ويرى تعجب الراوي الذي يستمع للقصة أيضا ولا تصديقه لها- يخبر مصطفى سعيد الراوي بأن تلك الأحداث لم تعد لها قيمة الآن، وأن مبرره للحكي خوفه من جموح خياله. بعد ذلك يختفي الراوي\ المستمع ويتلاشى المكان الذي يجلسان به، وتبدأ الكتابة؛ كتابة مصطفى سعيد لقصته؛ بلغة أكثر تعقيدا في تكوينها لأزمنة وأمكنة مختلفة وتنقلها بينها، وأنماط أسلوبية تنتمي إلى أكثر من شكل سردي، وبشاعرية لم تكن متاحة له عند الحكي المباشر.مصطفى سعيد الشفاهي ليس هو مصطفى سعيد الكِتابي، فالبرود عند الحاكي الشبيه بشخصيته كما وصفها ، ينقلب إلى حساسية مذهلة وحس شاعري -لم يكن يستخدمه حتى ذلك الوقت إلا في الإيقاع بالنساء- فيما بعد، وعند دخوله لغرفة مصطفى سعيد واطلاعه على كتبه ، قصاصاته ورسوماته -سيرى، وجوها لشخوص القرية، الذين وصفهم، مرئيين بعين الغريب وريشته، مما يفاجئه ويشككه في مدى معرفته بهم- سوف يقدم الراوي تبريرا مختلفا لتلك اللحظة والعلاقة: ذلك الغريب، الأناني و المغرور؛ استدرجه وأوقع به لكي يكون شاهدا على حياته وراويا لها بعد ذلك.هنالك قارئ سبقنا -زمن السرد يخدعنا أحيانا ويجعلنا نظن أننا نرافقه- إلى قراءة قصة مصطفى سعيد وإلى دخول غرفته: الراوي؛ يدفعه فضوله والرغبة في تفسير لغرابة تلك الشخصية، والتي تزداد غموضا عند كل رؤية ولقاء. لكن تلك القراءة\ المعرفة تزلزل حياته، مثلما فعلت بحيوات آخرين من قبل، الفرق أن بعض الذين عرفوا مصطفى سعيد معرفة جزئية قالوا بأن تلك المعرفة قد منحتهم سعادة عظيمة تغفر له بقية أخطائه -إيزابيل سيمور، آن همند، مسز روبنسن وزوجها- لكن المعرفة شبه الكاملة التي أتيحت للراوي القارئ لم تترك سوى قلقا وشكاً تحولا بمرور الزمن إلى غيظ وحقد تجاهه.ماديا، يبقى أي نص كما هو، بينما يتغير القارئ، ومن خلال القراءة، الاستعادة والتذكر فإنه يبدل ويغير النص كذلك. فالانطباع والأثر الأول الذي خلفته قصة مصطفى سعيد في نفس الراوي ليس هو ذات الانطباع الذي سيجده في فترات زمنية متباعدة وأماكن مختلفة: هاذيا في الصحراء، عند التقائه بآخرين عرفوا مصطفى سعيد واختلقوا له مصائر لم تقع، في ذات المكان الذي استمع فيه للقصة أول مرة، وأخيرا في الغرفة ذات النوافذ الخضراء حيث يخرج منها دون أن يسمح لمصطفى سعيد بإكمال القصة.يمكننا قراءة تلك الرواية -اختزاليا- كنموذج لمسار فعل\ حدث القراءة: الفضول والرغبة ← اللقاء والقراءة ← الخضوع لمنطق قصة الآخر وشك القارئ في منظوره\ قراءته لحياته ” قال أنه أكذوبة، فهل أنا أيضا أكذوبة؟”، إيمان الراوي بمعنى للحياة مستمد من وجوده داخل قبيلة\ قافلة يتلاشى بعد استماعه للقصة، لكنه يستعيده عند رؤيته لجده (التاريخ حسب جورج طرابيشي، وتلك قراءة من منظور تاريخي، لا تعنينا في هذه اللحظة، لأن وجود قارئ داخل النص \العالم لا يتوقف عن تقديم تفسيرات، تأملات وردود على آراء مصطفى سعيد، يريحنا من تقديم تفسيرات ويدفعنا بدلا عن ذلك إلى مساءلة خلاصاته) لكنه يفقده مرة أخرى، وهو سكران، يقول لمحجوب، أن الحياة نكتة كغرفة مصطفى سعيد التي يقفان أمامها الآن، تحسب أن بداخلها سرا ومعنى لكنها فارغة، لا شيء. وفي النهاية ، عند اقترابه من الغرق والموت، يرفض كلا الاحتمالين: المعنى أو العبث، وتنتصر بداخله الرغبة في الحياة ←التبرم والرغبة المضادة في التحرر من تأثير الحكاية -كنتيجة لمعرفته بحياته ، ألزمه برعاية ولديه (عقوبات القراءة) لكنه يقرر أن لا يلتزم حرفيا بوصيته، فيقوم بإلغاء ما ظنه سعيد مبررا أخيرا لوجوده ولكل ما عاناه وتضحية قدمها لكي يستقر ولديه “قال جنبهما مشقة السفر ، لكنني لن أفعل… الكل يبدأ من أول الطريق، والعالم في طفولة لا تنتهي” بذلك يلغي القصة والتاريخ← التخلص الزائف: يقول بعد خروجه من الغرفة وذهابه إلى النهر “لم أدعه يكمل القصة”، يقول أنه سينسى أو سيغفر، ولكن هل هذا ممكن لقصة تحولت كما قال من قبل إلى “جزء من عالمي، فكرة في ذهني” بعد أن كانت مجرد “طيف، حلم،كابوس”؟ ماذا هناك أيضا؟ تردد الراوي وتناقضاته، إخفاؤه لعباراته، تغير كتابته\ صوته بعد القراءة؟ *** في قصة (اتصال الحدائق) لكورتاثار، نرى رجلا يقوم بقراءة رواية، مستلقيا على مقعد يطل على حديقة منزله، شيئا فشيئا تجتذبه خيالات الرواية، ثم أثناء قراءته للفصول الأخيرة، وخلال مشهد تتفق فيه شخصيتان داخل الرواية: رجل وعشيقته، على قتل الزوج، نتابع حركة العشيق نحو بيت الزوج، وصوله إليه، وتنتهي القصة عند وقوفه خلف مقعد يجلس فيه رجل يقرأ الرواية. تنبني هذه القصة الفنتازية على تداخل بين سرد تفاصيل صغيرة وغير مهمة في يوم ذلك القارئ، ومشهد من رواية. عدا تلك التفاصيل فنحن لا نعرف شيئا عن حياة ذلك الرجل\ القارئ، ولكن تفاعله مع أحداث الرواية، يفتح الباب أمام احتمالات عديدة لتأويل علاقة القارئ بالنص: رؤية الرجل لنفسه في شخصية الزوج ونسيانه لهويته -بدافع التخييل ، أم إسقاطا لعامل نفسي؛ مروره بتجربة مماثلة -في (موسم الهجرة) يتوهم الراوي أمام مرآة عكست وجه مصطفى سعيد لزمن ، بأنه مصطفى سعيد- أثناء فعل القراءة ، قد يتلصص القارئ على حيوات شخوص العمل، أو يصير أحدها. أما الفنتازيا فلها منطقها الخاص: لم يصبح مكان القارئ وزمنه جزءا من الرواية، ولكن الرواية نفسها دخلت في زمن وحياة القارئ، وقتل العشيق الزوج، عند ذاك تتوقف القراءة، وتتلاشى الرواية، شخوصها، والقارئ أيضا -لماذا لم يتوقف عن القراءة عند سماعه لصوت الخطوات؟- ***تمتلئ قصص بورخيس وقصائده بالقراء والمكتبات، قراء كئيبون لاستحالة الإلمام بكل المعرفة -هم بورخيس نفسه أحيانا-، وتتمثل لحظات سعادتهم ونشوتهم في اكتشافهم لموسوعات ومخطوطات نادرة ومدهشة -ولا تخلو قصة له من الإشارة إلى إشكالية للقراءة أو طرح تساؤلات تتعلق أدواتها: الذاكرة، المخيلة، اللغة، والوعي… وجود قارئ داخل النص، هي حيلة بورخيسية لاستدراج القارئ وإيهامه بواقعية أحداث القصة، ثم مفاجئته بحدث فنتازي وغريب يدخل فجأة إلى ذلك العالم- كما أنه بذات الحيلة يزيح نفسه عن موقع الكتابة و يلغي مفهوم (المؤلف)، فبعض قصصه مخطوطات عثر عليها قُراء، وشاركوها قراء آخرين. ***لا أذكر الآن ما إذا كان يوزف ك قد أغلق النافذة التي كان جيرانه يتلصصون عبرها -مثل قُراء- على أحداث الفصل الأول في رواية (المحاكمة)، ما أذكره أن تطفلهم وفضولهم ذاك قد أزعجه. إن جيران يوزف ك ليسوا جزءا من أحداث الرواية، ولكن من عالمها -إنهم يراقبون فقط- كذلك هو الشخص الذي سيفتح نافذته عند نهاية الرواية، ويرى أولا يرى يوزف ك محمولا إلى نهايته\موته. ربما سينسى ذلك الشخص المشهد سريعا، وبالنسبة له كما بالنسبة لمحجوب، بت مجذوب وآخرين -الذين يروون مقاطعا من (موسم الهجرة) هنالك شيء غائب لن يعرفوه أبدا. أما القارئ، ذاك الذي في الخارج، فهنالك أجزاء غائبة، منسية ومحجوبة عنه أيضا، يمكنه أن يختلقها\ يكتبها، أن يحرر شخصيات العمل من قيود الزمن السردي، ويضاعف صفحات الرواية إلى ما لا نهاية. لكن لماذا كل تلك الحيل؛ المرايا والمضاعفات للسرد، وجهات النظر والأصوات المتعددة؟ يعتقد بورخيس في (سحر القصة داخل القصة) أن ذلك يزعجنا لأنه إذا كان بإمكان تلك الكائنات الوهمية أن تصير حقيقية عبر القراءة والمشاهدة، فإننا نحن أيضا قد نكون وهميين. ولكن ليس هذا فقط ما يزعجنا، فلا أحد فهم مصطفى سعيد أو يوزف ك، وسوء التفاهم ذاك واستحالة المعرفة، المستمر هاهنا، هو ما يزعجنا”.
-(قراءة لقراءات : القراءة كحدث)، نشر بموقع مجلة (جيل جديد) الإلكترونية، 2017
اترك تعليقاً