قراءة حول رواية “هاها.. كح كح.. نجوتُ بأعجوبة” للكاتب: مصطفى خالد مصطفى

·

·

, , ,

الرواية لا تتبع النسق الكلاسيكي في السرد أو البناء الروائي، بل تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”رواية الكارثة اليومية” أو رواية المذعورين/ المترقبين لنهاياتهم، والذين يقفون أمام لحظات مصيرية في حيواتهم هكذا إختار الكاتب د.مصطفى خالد مصطفى أن يفتتح عنوان الرواية بالمفارقة المزدوجة: الضحك والاختناق والنجاة. “هاها” ضحكة مبحوحة وهي علامة علامة سخرية سوداء، مرتبطة باللاجدوى، تتبعها “كح كح” كشاهد على السعال والاختناق وتقييد الحرية، ثم تأتي “نجوتُ بأعجوبة” والنجاة كعلامة ظاهرية للخلاص، لكنها تُناقَض داخليًا، ما يحوّلها إلى نقيض ذاتي، من نجا؟ ولماذا؟ وماذا بعد النجاة؟ مشاعر الذنب والبقاء والخوف من “ما هو قادم” كل لحظة نجاة لا تأتي بالراحة، بل بـ”أعباء النجاة” كما تُعرف في علم النفس.

في البنية السردية نلمح أسلوب تكسير الشكل فالرواية لا تمتثل لقواعد البناء التقليدي. فهي لا تُقسم إلى فصول واضحة، ولا تلتزم بزمن خطّي، ولا تقود القارئ نحو ذروة درامية أو نهاية مغلقة. بل تمضي في تقطيعات سردية، لذلك لا توجد حبكة محددة بل يوجد ميتاسرد وأصوات تليها أصوات.

الكثير من الشخصيات غير مُسماة إلا بوصفها العائلي (الأخت، الأب، الخطيبة، الجارة…).

السرد يتنقل بين (اليوميات والمشاهد الحسية، والتأملات الفكرية) فهي تقوم على تفكك زمني متعمد. لا تسير الأحداث بشكل خطي، بل تتنقل القصة في الأزمنة بين الماضي القريب واللحظة الراهنة عبر ومضات واسترجاعات. وهذا يعكس هيكلًا سرديًا لا خطيًا، يعبر عن زمن الحرب كزمن معطوب، لا يخضع للتتابع، بل للفوضى. الزمان في الرواية ليس مقياسًا للترتيب، بل لاضطراب الوعي.

هذا التكسير لا يعكس ضعفًا بل هو انعكاس لموضوع الرواية: الانهيار، التشظي، والعبث، وهي سمات تُميز كثيرًا من الأعمال الأدبية المكتوبة عن الحروب.

اللغة مشبعة بشاعرية قاتمة، تمتزج فيها البلاغة اليومية باللغة الأدبية العالية، مع ميل واضح إلى الصور الشعرية المبهرة، يمكننا القول بأن اللغة هجينة، متوترة، صادقة. تمتزج فيها العامية السودانية بالفصحى، وتتناوب بين السرد التقليدي، والتسجيل اليومي، والهلوسة الشاعرية. هذه الفوضى التعبيرية ليست ضعفًا، بل ترجمة حسية لوضع غير إنساني. (كمشهد الطيور التي خرجت من رأس الجارة المقتولة في أول الرواية) هذا المشهد برغم شاعريته إلا أنه مرعب، هكذا تتراوح اللغة كخيط متوتر بين الشاعرية والرعب.

الراوي شاب لا إسم له ينتمي إلى فئة “الراوي الحاضر/الضعيف” لا “الراوي العليم/القوي”. شخصيات الرواية لا تتطور دراميًا، بل وظيفيًا: فنجد الأخت تمثل الوعي، الأب يمثل القرار، الكنار يمثل الأمل…

أي أن الرواية تعتمد على شخصيات رمزية تؤدي أدوارًا في شبكة سردية مغلقة.

كما تتميز البنية المكانية بأنها مغلقة، خانقة، متوترة لكنها مليئة بالمراقبة، إنتظار لحظة الموت، وهي بيئة مطابقة تماماً لأحداث حرب أبريل التي تدور الرواية في ميقاتها، مما يخلق ثنائية الأمان/التهديد.

في واحدة من الخصائص المتميزة: إستخدام الميتاسرد وهي الطبقات المزدوجة لحكاية داخل حكاية وهي عنصر متميز، كما نجد الكثير من الحوارات الداخلية والمونولوج الداخلي هو العمود الفقري للنص، مشبعٌ بالتوتر، الأسى، واللاجدوى.

ومن الأشياء التي أثارت إنتباهي هو الحضور الأنثوي الكامل، حتى من خلال السارد الذكر. صوت النساء ليس ثانويًا، بل محوريًا: الأخت، الأم، الجارة، الحبيبة، جميعهن يحملن الرواية على أكتافهن – كما يحملن دائماً أوزار الحرب. تتحدث النساء عن الجسد، الخوف، الحبوب، الموت، الطيور، وكأنهن يقمن بـ”صيانة ما تبقى من المعنى”.

الحرب كخلفية وجودية لا مجرد حدث سياسي والحرب هي جذر التكوين السردي: الرواية لا تناقش الحرب من ناحية الأطراف أو السياسة، بل من ناحية أثرها على الجسد، الذاكرة، واللغة.

الرواية تتساءل بذكاء عن فكرة النجاة. النجاة كفعل أدبي: البقاء على قيد الحياة هو المشروع الجمالي للرواية. لذلك تُصبح أشياء مثل الطيور، الزهور، الحديقة، وحتى اللعب تحت السرير أدوات بقاء بالإضافة لسحريتها وغرائبيتها.

فالطاوؤس المذبوح قد يصبح علامة على الجمال المهدور، الخرطوم التي يُذبح جمالها، وطائر الكناري بحضوره السحري كخيط يربط بين الشخوص.

ومن الجماليات هي الانفتاح على السرد البصري: الرواية مليئة بالمشاهد التي يمكن تحويلها إلى سينما أو رسوم بصرية، من مثل مشهد القذيفة التي تُفتّح رأس الجارة إلى أزهار، ظهور طائر الكناري، السجين الذي يضحك ويرقص والسجن يُقصف، مشهد الناس الذين إنسلوا وإغتصبوا البنت المشلولة..الخ

بعض الشخصيات تحدث بأصوات أكثر وعياً من واقعها، وبعض المشاهد بسبب قصر الرواية لم تأخذ حقها كاملاً (حوالي ثمانون صفحة أو يزيد) برغم ذلك، قد يُشكّل هذا النص تحديًا لقراء الرواية الكلاسيكية الذين يبحثون عن بداية ووسط ونهاية، أو “بطل” واضح.

الرواية ليست عن الحرب فقط، بل عن الزمن المعطوب، وعن أناس على وشك أن يفقدوا حيواتهم، لذلك يكون الصوت سريعاً في بعض الأحايين..

هناك نوع من “الاعتراف الأدبي” المموه: شخصية الراوي تقف بين المؤلف والقارئ كوسيط هش، يعترف بأنه لا يعرف لماذا يكتب، لكنه مع ذلك يكتب، وهذا جوهر الصدق الأدبي.

“هاها.. كح كح.. نجوتُ بأعجوبة” ليست رواية عن الحرب بقدر ما هي شهادة على حياة من عاشوا في ظلها، رواية التفاصيل الصغيرة التي تصير مصيرية، للحظة أحسست بأن ما تقوله الرواية بأصواتها وشخوصها “هكذا عشنا، هكذا فكرنا، هكذا بكينا وهكذا حاولنا أن نضحك”. ولم تكن تقول حدث كذا في حرب السودان ومن هنا، تأتي قوتها.

النهاية ليست خاتمة بالمعنى الروائي. لا نعرف ما إذا كان السارد نجا، هل غادر، هل كتب الرواية فعلاً أم مات قبل إنهائها؟ تبقى الرواية مفتوحة كحياة الذين نجوا ولم يعودوا كما كانوا. وهذا القرار الفني ذكي؛ لأنه يحترم واقع الحرب: لا نهايات حقيقية في الحرب.!

في الختام يمكنني القول يسرني أنني أكملت للتو قراءتي لرواية “هاها.. كح كح.. نجوتُ بأعجوبة” للكاتب (د. مصطفي خالد مصطفي)، والفائزة بالجائزة الاولي لبيت الغشام-دار أدب للترجمة والتي سيترجمها المترجم (وليام ماينارد هتشنز).. وبحسب رأئي المتواضع وثقةً في منتوج الشباب ممن هم مجيالين وسابقين في التجربة، إننا أمام تجربة كتابية عظيمة وتسير بخطى ثابتة وبإلتزام تام، كما يسرنا دائماً أن نقرأ ما يكتبه دكتور مصطفى، فهذه الرواية هي العمل الأدبي الخامس للكاتب، وقد جاءت بعد ثلاث روايات ومجموعة قصصية، نسأل الله له التوفيق في الدرب.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *