فُتُوحَاتُ الهُدْهُدِ بِكَرِيمَةَ

·

·

,

أسعد العباس

لأنَّهُ المُنفَرِدُ بِصِفَةِ الفَرْدِ، تَفَرَّدَ المَلَامَاتِي بِلَكْنَةٍ سَاخِرَةٍ مُسْتَبْطَنَةٍ بِعَطْفِ الأُمُومَةِ. وَلأنَّ اللهَ حُرًّا تَرَكَ كُلَّ فَرْدٍ مِنَّا يُجَسِّمُ لَهُ نَمُوذَجًا يُحَاكِي صِفَةَ الأُلُوهَةِ، الَّذِي يَرَى أَهْلُ المَعَارِفِ أَنَّ اللهَ كُلُّ هَذَا، وَكُلُّ تَصَوُّرٍ نَرَاهُ عَنِ الحَقِيقَةِ أَيًّا كَانَ جَوْهَرُهَا وَمَصَبُّهَا، فَكُلُّهَا تَسُوقُ إِلَيْهِ فَهِيَ مِنْهُ. وَمِنْ صِفَاتِ التَجَلِّي: الخَلْقُ وَالإِبْدَاعُ وَالفَنُّ؛ خَلْقٌ يُحَاكِي مَا خَفِيَ عَنِ الآدَمِيِّ مِنْ عَلَامَاتِ اسْتِفْهَامٍ وَآيَاتِ اسْتِدْلَالٍ وَبَرَاهِينَ عَابِرَةٍ، ابْتَكَرَ الإِنْسَانُ الفَنَّ أَوَّلًا. فَكَانَتِ الصُّوَرُ الَّتِي يَرَاهَا أُولَى حَالَاتِ الفَنِّ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الأَصْوَاتَ فَنَطَقَ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ النَّحْتَ لِصُنْعِ الآلَةِ الأُولَى الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى مَا عَجَزَ جَسَدُهُ عَنْهُ. ثُمَّ أَدْرَكَ الأَلْوَانَ مِنَ المُشَاهَدَةِ، وَالمُوسِيقَى مِنْ كُلِّ صَوْتٍ. بَعْدَ أَنْ عَرَفَ الآدَمِيُّ كُلَّ هَذَا، ظَلَّ فِي حَيْرَةٍ تَامَّةٍ وَعَجَزَ عَنِ القَادِمِ، وَعَنِ القُوَى الَّتِي أَعْجَزَتْهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ القُدْرَةُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا، اسْتَدْرَكَ الآدَمِيُّ مَا جَمَعَ مِنْ فَنٍّ، وَبَدَأَ يَمْلَأُ هَذَا الفَرَاغَ العَظِيمَ بِهِ. فَالْبَدْءُ كَانَ الصَّرَاخَ بِأَصْوَاتٍ مُتَنَاغِمَةٍ تُحَاكِي التَّغَامَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، ثُمَّ بَدَأَ يَسْتَنْطِقُ الأَشْيَاءَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَى جُمْلَةٍ مِنْ صُنْعِهِ، وَهِيَ المُوسِيقَى. ثُمَّ أَتَتِ السُّلْطَةُ، وَبَعْدَهَا الأَدْيَانُ لِتُرَوِّضَ الوَحْشَ الآدَمِيَّ الحُرَّ فِي كَنَفِ السُّلْطَةِ. مُنْذُ أَنْ تَحَوَّلَ الإِنْسَانُ مِنْ مُسْتَهْلِكٍ (أَيْ مُسْتَخْدِمٍ لِلطَّبِيعَةِ) ظَهَرَتِ السُّلْطَةُ بِشَكْلٍ مُسْتَبْطَنٍ، وَلَعَلَّ أَنْبِيَاءَ الفُنُونِ يَعْلَمُونَ تَمَامَ العِلْمِ أَنَّ اللهَ هُوَ الحُرِّيَّةُ دُونَ قَيْدٍ وَشَرْطٍ. وَلأنَّ الأَدْيَانَ تَخْشَى الفُنُونَ؛ تَخْشَى الفُنُونَ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ لِلآدَمِيِّ أَنْ لَا سُلْطَةَ عَلَيْهِ سِوَى سُلْطَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالحَيَاةِ. يَقُولُ الفَرْدُ عَاطِفٌ: «جُمْلَةُ أَوْلِيَاءِ النَّحْتِ سَابِقِينَ الحَوَاسِّ بِرَكْعَةٍ»، مُدَلِّلًا أَنَّ هُنَاكَ نُسُكًا أُخْرَى أَقْرَبَ وَأَكْثَرَ خُشُوعًا وَسُمُوًّا مِنْ تِلْكَ الَّتِي يَعْرِفُهَا الآدَمِيُّ؛ النُّسُكُ المُغَيَّبَةُ بِفِخَاخِ السُّلْطَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ. نَاهِضِينَ وَيُلَقِّحُوا مِنْ حَلْقِ الشَّوْفِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ النَّبْعَ الآدَمِيَّ الصَّافِيَ، وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ مَا يَشَاءُونَ، وَمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الحِسِّ الآدَمِيِّ سَلِيلِ الدِّينِ بِبَعْضِ الدَّرَجَاتِ، أُولَاهَا دَرَجَةُ الشَّوْفِ أَوْ تَأْوِيلُ الحَدَثِ وَالحَدْسِ فِي تَنَاغُمٍ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِ الجَوْهَرِ الآدَمِيِّ الخَبِيثِ خَلْفَ دَهَالِيزَ لَوْلَبِيَّةٍ مِنْ دَنَسِ السُّلْطَةِ المُتَعَاقِبَةِ دِينِيًّا وَإِنْسَانِيًّا. فِي تُسَابُقِ الأَرْوَاحِ نَحوَ النَّبْعِ الأُولَى لِفِكْرَةِ اللهِ وَالحُرِّيَّةِ وَالحَيَاةِ، أُولَى الأَرْوَاحِ الَّتِي تَنْضَحُ بِهَذَا المَاءِ النَّقِيِّ أَرْوَاحُ الفَنَّانِينَ. مَا دَلَّنِي أَنَّ هَذِهِ الرُّوحَ المَحْمُولَةَ بِنَعْتِ طِينٍ يُدَّعَى عَاطِفٌ أَنَّهَا مَلَامَاتِيَّةٌ، جَذْعَةً مِنْ هَوْلِ الكَشْفِ. فَبَدَأَ يَسْتَنْكِرُ عَلَى نَفْسِهِ صِفَةَ الخَلْقِ بِأُسْلُوبِهِ السَّاخِرِ يَقُولُ: «أَنَا مَا خَلَقْتُكِ يَا ظُنُونْ، شَأْنُكِ تَبِيتِي اللَّيْلَ مَعَايْ»، هَنَا وَكَأَنَّهُ يُلْزِمُ الخَالِقَ بِالمُلَازَمَةِ مَعَ المَخْلُوقِ، وَيَسْتَنْكِرُ عَلَيْهِ الغِيَابَ. وَهَنَا أَيْضًا يَقُولُ: بِذَاتِ الصَّوْتِ، السَّاخِرِ الخَجُولِ: «قُولْ يُغَرِّزُنَا رَبُّ البَيْتِ فِي البَلَدِ الكُتْرِ كَتَاحُو، وَالعُمْرُ إِيَّةٌ غَيْرُ خَيْطٍ إِنْ شَاءَ اللهُ الإِبْرَةُ مَا ارْتَاحُو». ظَنَّ المَلَامَاتِيُّ أَنَّ الجَسَدَ هُوَ العَطَبُ الَّذِي يَحْجُبُ عَنِ الرَّاحَةِ مِنَ السُّؤَالِ وَالظَّنِّ وَالشَّكِّ وَاليَقِينِ، فَقَالَ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوَصِّلَ أَنَّ الأَجْسَادَ مَرْحَلَةٌ نَحوَ انتِقَالٍ قَادِمٍ، فَاسْتَدَلَّ بِالخَيْطِ لِيَدُلَّ عَلَى الرُّوحِ، وَالإِبْرَةِ لِتَدُلَّ عَلَى الجَسَدِ؛ فَهُوَ يُرِيدُ شَقَاءَ الجَسَدِ مُقَابِلَ وَهْدُوءِ الرُّوحِ. هَنَا أَيْضًا لَوْمٌ آخَرُ: «إِنَّ فِي سُقَالَةِ الشَّوْفِ قَدَحَ البَصِيرَةِ ثَقِيلٌ، فَاتَحْ زَرِيبَةَ الجَوْفِ، الجَوْفُ تَمْرَقُ تَخِشُّ الخَيْلُ عَلَى كَيْفِهَا كَيْفَ مَعْلُوفْ ظَهْرَ المَظَنَّةِ يَشِيلْ». عَزِيزِي المَلَامَاتِيُّ: مَنْ تَوَرَّطَ فِي رَتْقِ قَارِبِ الأَرْوَاحِ لَا يَشْكُو الأَمْوَاجَ خَارِجَ السَّفِينَةِ، أَنْتَ الأَنَا مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ النَّارَ، وَحَلَّقَ كَنَوْرَسٍ تَحْتَ مَاءِ الإِلَهِ، دُونَ شَطٍّ فِي تَلَاطُمٍ بَيْنَ ظَنٍّ وَيَقِينٍ، تَعَرَّجَ بِسَاقِ المَعَانِي نَحوَ المَعَانَاةِ. أَنْتَ مَنْ فَتَحَ زَرِيبَةَ الجَوْفِ لِلخَيْلِ، وَوَقَفْتَ مُكْتَوفًا تُرَاقِبُ دُخُولَهَا وَخُرُوجَهَا، فَأَنْتَ الأَنَا عَلَفٌ لِلأَفْكَارِ بَيْنَ شَكٍّ وَيَقِينٍ. الأَفْكَارُ خَيْلٌ لَا تُرْوَضُ وَلَا تُلْجَمُ وَلَا تُرْضَى بِغَيْرِ الرِّيَاحِ مُجَادِلًا وَمُحَادِثًا، فَهَلَّا اسْتَرْجَلْتَ يَا صَدِيقْ؟ مُتَطَيًّا المَظَنَّةَ المُحْرَقَةَ فِي الأَفْكَارِ، مَا أَعْظَمَ الدَّمَ وَأَجْمَلَ الرِّحْلَةَ عِنْدَ الوُصُولِ. نَرْجِعُ وَنَقُولُ: «يِجِيكَ ابْنُ كَلْبٍ يَقُولُ لِيكَ عَاطِفْ غَيْرْ مَوْقِفَةْ، يَا بَطَّةْ أَنْتِ المَحْدُودَةُ الأُفُقْ، فَارْخِي لِيكِ جِسْمَكْ، وَمَا تِسْمَعِ الشِّعْرَ بِأُذْنَيْكِ لَوْ دَايِرْ جَرَسْ، أَمْشِي الخَرْدُ الأَصْوَاتُ مُتَنَاغِمَةٌ وَالجَرَسْ حَقَّهَا ظَابِطْ». وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهَا فُتُوحَاتُ ابْنِ عَرَبِيٍّ بِبَكَّةَ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا فُتُوحَاتُ الهُدْهُدِ بِكَرِيمَةَ.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *